عن المدون

صورتي
ايادبزاع الاثوري
بسم الله الرحمن الرحيم الاسم/اياد نعمان محمد بزاع المهنة/خريج من كلية العلوم التطبيقية قسم-الكيمياءالتطبيقية جـــامــــعـــــــــــــة - تــــعـــــــــــــــــز البريدالإلكتروني/ayadbazaa2011@yahoo.com))
عرض الملف الشخصي الكامل الخاص بي

للاشتراك في القائمة البريدية

ضع ايميلك هنا ليصلك جديد المدونة:

أرشيف المدونة

القرآن الكريم

المتابعون للمدونة

كيف اصبحوا عظماء؟


بسم الله الرحمن الرحيم
كيف اصبحوا عظماء؟

اللهم ربنا لك الحمد بما خلقتنا ورزقتنا وهديتنا وأنقذتنا وفرجت عنا، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، كبتَّ عدونا وبسطت رزقنا وأظهرت أمننا وجمعت فرقتنا وأحسنت معافاتنا ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا، فلك الحمد على ذلك حمداً كثيراً ، لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت، وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، أما بعد :-
لقد وضعت في كتابي هذا قصصاً من حياة بعض العظماء، آخذ باعتباري أن تكون هذه القصة ذات أحداث متتالية مترابطة، لتكون أمتع وأسهل قراءة، وإلا فالتاريخ مليء بهؤلاء العظماء الذين تركوا بصمات واضحة وآثاراً نافعة لأنفسهم أمتهم.
ولقد علَّقت على كل قصة بتعليق أبين فيه جانب العظمة الذي أستهدفه وأستشرفه عند الرجل، وإلا فهؤلاء الرجال يملكون من صفات التميز ما تعجز هذه الصفحات عن إبرازه.
وعندما خطت يدي هذه المقدمة ، كنت على علم ويقين أن خير الناس وسيد ولد آدم وأشرف وأعظم من مشى على الأرض هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكني لم أشأ أن يقول القائل هذا رسول مؤيد من السماء يرعاه الله ويحفظه في كل خطوة يخطوها، فكيف نصل إلى ما وصل ، ولذا جعلت أبطالي كما سترى لا ملِكاً بينهم ولا رسولا.
لتعلم أني قد كتبت الكتاب من أجل الشباب، من أجل من ينهض التاريخ بسواعدهم ومن تسمو بهمتهم أوطانهم، فإن كنت نم هؤلاء الشباب، فهذا كتابي بين يديك قد جعلت قصصه سهلة العبارة، متتابعة الأحداث، لعلك تجد فيه الأنس والمتعة والفائدة.
وإن كنت مربياً ( أباً، معلماً،....) فهو لك أيضاً تجعله مداداً لما عندك من قصص وعبر، تأمل بها أن تنهض بهمة من تعول وتربي.
لكم أيها الشباب كتبته .. كتبته إلى من أحب .
المؤلف د. سعد سعود الكريباني
nk what you think...
تاكيو أوساهيرا
يقول الياباني تاكيو أوساهيرا :
ابتعثتني حكومتي للدراسة في جامعة هامبورغ بألمانيا لأدرس أصول الميكانيكا العلمية, ذهبت إلى هناك وأنا احمل حلمي الخاص الذي لا ينفك عني أبداً والذي خالج روحي وعقلي وسمعي وبصري وحسي , كنت أحلم بأن أتعلم كيف أصنع محركاً صغيراً.
كنت اعرف أن لكل صناعة وحدة أساسية أو ما يسمى موديلاً , وهو أساس الصناعة كلها فإذا عرفت كيف تصنعه فإنك وضعت يدك على سر هذه الصناعة كلها .
وبدلاً من أن يأخذني الأساتذة إلى المعمل أو مركز تدريب عملي أخذوا يعطونني كتباً لأقرأها, وقرأت حتى عرفت نظريات الميكانيكا كلها ، ولكنني ظللت أمام  المحرك أيا كانت قوته وكأنني أقف أمام لغز لا يحل, كأني طفل أمام لعبة جميلة لكنها شديدة التعقيد، لا أجرؤ على العبث بها.
كم تمنيت أن أداعب هذا المحرك بيدي، كم أشتاق إلى لمسه وتعرف مفرداته وأجزاءه، كم تمنيت ضمه ولمه وقربه وشمه، كم تمنيت أن أعطر يدي بزيته، وأصبغ ثيابي بمخاليطه، كم تمنيت وصاله ومحاورته والتقرب إليه ، لكنها ظلت أمنيات .. أمنيات حية تلازمني وتراودني أياماً وأياماً.
وفي ذات يوم قرأت عن معرض محركات إيطاليه الصنع، كان ذلك أول الشهر ، وكان معي راتبي وجدت في المعرض محرك بقوة حصانين، ثمنه يعادل مرتبي كله ، فأخرجت الراتب ودفعته للبائع، وحملت المحرك وكان ثقيلاً جداً وذهبت إلى حجرتي ووضعته على المنضدة، وجعلت أنظر إليه كأنني أنظر إلى تاج من الجواهر، وقلت لنفسي : هذا هو سر قوة أوروبا !! لو استطعت أن أصنع محركاً كهذا لغيرت اتجاه تاريخ اليابان.
وطاف بذهني خاطر .. إن هذا المحرك يتألف من قطع ذات أشكال وطبائع شتى، مغناطيس كحدوة الحصان، وأسلاك وأذرع دافعة وعجلات وتروس وما إلى ذلك، لو أنني استطعت أن أفك تركيبها بالطريقة نفسها التي ركبوها بها ثم شغلته فاشتغل ... أكون قد خطوت خطوة نحو سر موديل الصناعة الأوروبية .
بحثت في رفوف الكتب التي عندي، حتى عثرت على الرسوم الخاصة بالمحركات، وأخذت ورقاً كثيراً، وأتيت بصندوق أدوات العمل، ومضيت أعمل.. رسمت منظر المحرك بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمي أجزاءه، ثم جعلت أفكك أجزاءه قطعة قطعة، وكلما فككت قطعة رسمتها على الورق بغاية الدقة وأعطيتها رقماً، وشيئاً فشيئاً حتى فككته كله، ثم أعدت تركيبه من جديد.
وفي هذه اللحظة وقفت صامتاً قليلاً .. إنه وقوف وصمت المتشكك .. هل سأنجح في تشغيله ؟ وبسرعة قطعت شكي وأدرت المحرك .. فأشتغل، وما أن غرَّد صوت المحرك حتى كاد قلبي يقف من الفرح .. استغرقت العملية ثلاثة أيام، كنت آكل في اليوم وجبة واحدة، ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل.
وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا، فقال : حسناً فعلت ، الآن لابد أن اختبرك، سأتيك بمحرك متعطل، وعليك أن تفككه وتكتشف موضع الخطأ وتصححه، وتجعل هذا المحرك العاطل يعمل.
كلفتني هذه العملية عشرة أيام ، وعرفت في أثنائها مواضع الخلل، فقد كانت ثلاث من قطع المحرك بالية متآكلة، صنعت غيرها بيدي، صنعتها بالمطرقة والمبرد، لقد كانت هذه اللحظات من أسعد لحظات حياتي، فأنا مع المحرك جنباً إلى جنب، ووجهاً إلى وجه، لقد كنت سعيداً جداً رغم المجهود الذي بذلته في إصلاح هذا المحرك .. قربي من هذا المحرك أنساني الجوع والعطش ، لا آكل في اليوم إلا وجبة واحدة، ولا أصيب من النوم إلا القليل .
ثم تأتي اللحظات الحاسمة لاختبار أدائي في إصلاح هذا المحرك بعدما جمعت أجزاءه من جديد، وبعد قضاء عشرة أيام من العمل الشاق، أخذت يدي تقترب لإدارة المحرك.. وكم كنت أحمل من القلق والهم في تلك اللحظات العصيبة، هل سيعمل هذا المحرك ؟ هل سأنجح بعدما أدخلت فيه بعض القطع التي صنعتها ؟! وكم كانت سعادتي واعتزازي بعدما سمعت صوت المحرك وهو يعمل .. لقد أصلحته .. لقد نجحت .
بعد ذلك قال رئيس البعثة: عليك الآن أن تصنع قطع المحرك بنفسك، ثم تركبها محركاً.
ولكي أستطيع أن أفعل ذلك التحقت بمصانع صهر الحديد وصهر النحاس والألمونيوم، دلاً من أن أُعد رسالة الدكتوراه كما أراد أساتذتي الألمان ، تحولت إلى عامل ألبس بدله زرقاء، وأقف صاغراً إلى جانب عامل صهر معادن، كنت أُطيع أوامره كأنه سيد عظيم، كنت أخدمه حتى في وقت أكله، مع أنني من أسرة ساموراي .. والأسرة السامورائية هي من أشرف وأعرق الأسر في اليابان ، لكنني كنت أخدم اليابان وفي سبيل اليابان يهون كل شيء.
قضيت في هذه الدراسة والتدريبات ثماني سنوات ، كنت اعمل خلالها بين 10 و 15 ساعة في اليوم بعد انتهاء يوم العمل كنت آخذ نوبة حراسة، وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة .
وعَلِمَ الميكادو ( إمبراطور اليابان ) بأمري، فأرسل لي من ماله الخاص خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهباً، اشتريت بها عدةً وأدوات وآلات لمصنع محركات متكامل ، وعندما أردت شحنها إلى اليابان، كانت النقود قد نفدت، فوضعت راتبي وكل ما ادخرته خلال تلك السنوات الماضية لاستكمال إجراءات الشحن .
عندما وصلنا إلى ناجازاكي قيل لي : أن الميكادو يريد أن يراني، قلت: لن أستحق مقابلته إلا بعد أن أنشئ مصنع محركات كامل .. استغرق ذلك 9 سنوات من العمل الشاق والجهد المتواصل.
وفي يوم من الأيام ، حملت مع مساعدي 10 محركات صُنعت في اليابان قطعة قطعة، حملناها إلى القصر، ووضعناها في قاعة خاصة بنوها لنا قريباً منه ثم أدرنا جميع المحركات العشرة ودخل الميكادو وانحنينا نحييه فابتسم وقال : هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي صوت محركات يابانيه خالصة .. هكذا ملكتا الموديل وهو سر قوة الغرب، نقلناه إلى اليابان ، نقلنا قوة أوروبا إلى اليابان ونقلنا اليابان إلى الغرب .
وبعد ذلك الحديث السعيد ، ذهبت إلى البيت فنمت 10ساعات كاملة .. وهي أول مرة أنام فيها 10 ساعات كاملة منذ 15 عاماً.
Life without dreams, is like a broken winged bird that can not fly.
كيف أصبح تاكيو أوساهيرا عظيماً ؟!!؟
كانت لتاكيو رؤية واضحة وأهداف محددة عما يريد، وذلك منذ اللحظة التي اغترب فيها عن بلده إلى ألمانيا، أكثر من 18 سنة وهذه الرؤية واضحة لديه لا لبس فيها ولا غموض، عاشت معه تلازمه كأنفاسه التي تتردد بين جنبيه، قلَّ لها نومه وكثر معها سهره وزهد في أكله وشربه وترك من أجلها شهادة الدكتوراه .. ترك كلمات التفخيم والإجلال.
تضحيات وقراءة وعمل مستمر لأكثر من 18 سنة، إلا أنه مطمئن لقراراته مستمتع بما يفعل إنه يرى دنو أحلامه.. أحلامه التي نسجها في خياله بدأت تظهر في واقعه، إنه يراها.. فأسرع لها الخطى وهانت من أجلها كل العقبات.. إن مضمار سباق الجري ليشهد بصحة ما أقول فبمجرد أن تقع عيني اللاعب على خط النهاية إلا وتراه قد نسي تعبه وانطلق سريعا كالسهم.
كنت أحد المشاركين في دورة بناء الذات الوالدية التي نظمتها مدرسة التكامل العالمية لأولياء الأمور، التي قدمها الدكتور إبراهيم محمد الخليفي، لقد قسم الدكتور إبراهيم المشاركين المائة على 24 طاولة، فأصبح تقريباً كل 4مشاركين يشكلون فريقاً واحداً،وفي بداية الدورة وزَّع الدكتور على المجموعات نوع من ألعاب التركيب، وهي عبارة عن صورة مفككة إلى أجزاء كرتونية سميكة، يقوم المتدربون بإعادة تشكيل الصورة بناء على الصورة الورقية المرفقة مع اللعبة ، لكن لم بكن هذا هو الحال عند كل المجموعات، لقد سحب الدكتور الصورة الورقية من 12 مجموعة وأبقى الصورة الورقية عند المجموعات الأخرى، حدد الدكتور زمن الانطلاق ثم أطلق صافرة البداية، فهبت المجموعات للعمل لتركيب الصورة المطلوبة .. فماذا تتوقع أن يحدث ؟
لقد أصبح المشاركون على حالين ، المشاركون الذين يملكون الصورة الورقية، والتي تمثل ورقة الحل ، كان عملهم منظماً وسريعاً ومثمراً ، أما المجموعات التي حرمت من ورقة الحل، كان عملهم متخبطاً وفوضوياً وبطيئاً .. ولعلك الآن أدركت ماذا حدث.

المجموعات التي تملك ورقة الحل ترى الصورة المطلوب تنفيذها، إنها تراها بوضوح، فأصبح عملهم سريعاً منظماً هادئاً ، قَلَّت فيه التساؤلات والاعتراضات، أما المجموعات التي حرمت ورقة الحل فقد رأيتها في حيص بيص، هذا يقترح وهذا يعترض وهذا يسأل، وهذا ملَّ واكتفى بالمراقبة وشرب الشاي، إنهم مجتهدون في العمل ولكنهم لا يعرفون ماذا يعملون وماذا يريدون، لقد فقدوا الرؤية الواضحة، لقد فقدوا سر النجاح.
بعد أن فاز أندريه أجاسي في بطولة ويمبلدون للتنس الأرضي عام 1992، جاءه الصحفيون يباركون ويهنئون قال الصحفيون : مبارك هذا الانجاز يا اجاسي ، فقال لهم مستنكراً : لم تكن هذه المرة الأولى التي أفوز فيها ببطولة ويمبلدون ، فقد فزت بها آلاف المرات من قبل.
فنظر الصحفيون إلى بعضهم مستغربين هذا الحديث، وكأنهم يقولون لبعضهم: إننا لم نعرفك إلا هذه السنة، ومن فوزك فقط في هذه البطولة. فأدرك أجاسي حيرة الصحفيين، وقال لهم : منذ أن كان عمري 10 سنوات لا أنام ليلتي إلا بعد أن أكون قد تخيلت فوزي هذا ، وتخيلت نفسي وأنا أرفع هذا الكأس، لقد تخيلت فوزي وإنجازي وسعادتي آلاف المرات.
إن هذه الرؤية الواضحة والمستمرة منحت أجاسي ثقة داخلية، أدت به في النهاية إلى تلك الحقيقة التي حدثت في صيف 1992 عندما فاز بالبطولة.
كل العظماء والناجحين كانت لديهم رؤية واضحة عما يريدون، كانت لديهم أهداف واضحة ومحددة بكم وزمن.. ما المنصب الذي أسعى إليه؟ ما مقدار المال الذي سوف أجمعه ؟ متى يقع ما أخطط له ؟ بعد سنة، أ/ بعد خمس، أم بعد عشرين سنة ؟
قرر التلفزيون الأرجنتيني عام 1970 مقابلة فتى لم يتجاوز عمره 9 سنوات، لأنهم سمعوا أن هذا الفتى يملك مهارات عاليه وغير عادية بكرة القدم ، فأجريت مقابلة دييغو مارادونا في الحي والحارة التي يلعب بها، فسأله التلفزيون عن أمنياته، فقال الفتى ابن التسع سنوات وصاحب الأهداف الواضحة :
-أريد أن ألعب مع منتخب الأرجنتين
-أريد أن أحقق معهم كأس العالم
-أريد أن أكون أحسن لاعب
وبعد 16 عاما وبالتحديد عام 1986 يفوز منتخب الأرجنتين بكأس العالم بقيادة الأسطورة مارا دونا.
ومن بين تلاميذ الصف، قال الطفل بيل كلينتون – رئيس أمريكا السابق – لأستاذه : طموحي أن أعمل رئيساً لأعظم قوة على الأرض – يقول هذا وهو ابن الأرملة الفقيرة وابن القرية المتواضعة. ضحك المدرس والتلاميذ والجيران وحتى الأقرباء عندما سمعوا تلك الرؤية الجريئة، قالوا له: كن واقعياً أيها الطفل.. لكن الطفل بيل وتجرأ على تصور وتخيل ذلك الأمر المستحيل في عقله وباستمرار، فعمل واجتهد حتى حقق تلك الرؤية المبكرة.
الناس العظماء وأصحاب الإنجازات العظيمة نادراً ما يكونون واقعيين في تفكيرهم وطموحاتهم، على الأقل فهم لا يفكرون بالطريقة التي يفكر بها الناس العاديون.
اجتمع عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة، فقال لهم مصعب : تمنوا، فقالوا ابدأ أنت ، فقال : ولاية العراق، وتزوج سكينة ابنة الحسين وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله .. فنال ذلك واصدق كل واحدة 500 ألف درهم وجهزها بمثلها. وتمنى عروة بن الزبير الفقه، وأن يحمل عنه الحديث، فنال ذلك. وتمنى عبد الملك الخلافة فنالها. وتمنى عبد الله بن عمر الجنة .. العجيب أنهم كانوا يجدون ما تمنوا وزيادة.
يقول ستيفن كوفي في كتابه إدارة الأوليات :
" ويمكن القول أن الواقع أثبت أن الأفراد والمنظمات التي تضع أهدافاً واضحة للوصول إليها تحقق نتائج أفضل، وأن الواقع يثبت أيضاً أن القادرين على وضع الأهداف والقادرين على الوصول إليها يحققون ما يحلمون بالوصول إليه".
حدثني الدكتور بشير الرشيدي – أستاذ علم النفس بجامعة الكويت -  بقصة رجل إنجليزي اسمه جراهام ، كان المستر جراهام مديراً لإحدى الجامعات البريطانية في عام 1978 كان المستر جراهام قد بلغ الستين من عمره، ولذلك لابد أن يحال إلى التقاعد ويترك العمل في الجامعة، وبهذه المناسبة فإن الجامعة نظمت لمديرها السابق المستر جراهام حفلا وداعياً ، دُعي له العمداء وأساتذة الجامعة والشخصيات التربوية، وفي يوم الحفل الذي كان مكتظاً بالأساتذة الأكاديميين وبعض الشخصيات التربوية البارزة، دعي المستر جراهام لإلقاء كلمةِ كعادةِ مثلِ هذه الاحتفالات، صعد المستر جراهام إلى خشبة المسرح الكبير ووقف أمام الميكروفون بكل ثقة الدنيا وقال : وضعت لنفسي 20 هدفاً لا بد أن أحققها خلال العشر السنوات القادمة – ما أن قال ذلك حتى كثر الهمس والابتسامات الساخرة من بعض الحضور – أكمل المستر جراهام حديثه بكل ثقة فقال : الهدف الأول : أريد بيتاً مساحته 10 آلاف متر مربع، والهدف الثاني : أريد تذاكر سفر لمدة 10 سنوات قادمة .. أريدها لبناتي الثلاث وأزواجهن وأطفالهن، لكي تزورني كل بنت منهن مع زوجها وأطفالها 3 أشهر بالسنة، الهدف الثالث.. ثم عدَّ المستر جراهام 18 هدفاً أخرى يسعى إلى تحقيقها.
وبعد عام واحد فقط ، عام 1979 تولت السيدة مارغريت تاتشر رئاسة الوزراء في بريطانيا، فشكلت وزارة جديدة كعادة الساسة الذين يتولون هذا المنصب، وذلك أملاً بتطوير البلاد وإصلاح الفساد وإرضاء العباد، وكان من ضمن الذين استدعتهم تاتشر بعد توليها لمنصبها هو المستر جراهام ، وذلك لتعيينه مستشاراً لسياسة الجامعات البريطانية، آملة أن يصلح التعليم ويطوره.
رفض المستر جراهام هذا العرض المغري متعذراً بـأهدافه العشرين التي لم يحققها .. هذا المنصب سيمنعه من تحقيق أهدافه، هذا العمل سيأخذ الكثير من وقتي، ولا بد لي أن أفكر بتحقيق أهدافي قبل أن أفكر بتحقيق أهداف الآخرين، إنك يا سيدة تاتشر إن حققتَ لي هذه الأهداف، فأنا لا أمانع من أن أتولى هذا المنصب ، قالت : ما هي أهدافك؟ هل أستطيع أن أسمعها منك ؟ فقال المستر جراهام : الهدف الأول : بيت مساحته 10 آلاف متر مربع ، والهدف الثاني ... والهدف الثالث.. وهكذا حتى استعرض أهدافه العشرين كلها ، قالت تاتشر : لا مانع عندي أن أحقق جميع أهدافك العشرين، ولكن على شرط واحد أن ترجع ملكية البيت بعد موتك إلى الدولة البريطانية
وافق المستر جراهام على هذا، وتولى منصبه الجديد، مستشاراً لسياسة الجامعات البريطانية، حقق أهدافه العشرين ، وأصبح يمتلك بيتاً في قلاسكو في اسكتلندا مساحته12 ألف متر، لقد طلب بيتاً بمساحة 10 آلاف متر ، ولكنه نال أكثر ، وهو شأن الحالمين أصحاب الرؤى الواضحة.
كان اختيار السيدة تاتشر موفقاً، كانت وزارة التربية في بريطانيا تتحمل كل التكاليف الدراسية للطالب الجامعي، وبعد تولي المستر جراهام لمنصبه، أصبح الطالب يتحمل ثلاثة أرباع التكلفة وتتحمل الدولة عنه الربع الباقي، لقد وفَّر المستر جراهام مليارات الجنيهات للدولة.
ويأتي عام 1991 وتقال وزارة تاتشر ويقال مستشاروها معها، ليخلوا المكان لرئيس وزراء جديد بوزراء ومستشارين جدد، لقد كان المستر جراهام احد المقالين من منصبهم، فقرر مدراء الجامعات البريطانية عمل احتفال لتوديع المستر جراهام الذي بلغ 72 من عمره ، كانت هناك كلمة للمستر جراهام في هذه الحفلة الوداعية قال فيها
وضعت لنفسي عشرين هدفاً أسعى إلى تحقيقها في السنوات العشر القادمة – الناس في القاعة بين منبهر وساخر ومبتسم – أكمل المستر جراهام حديثه كالعادة بثقة ملحوظة، والهدف الأول : أسعى إلى تأسيس مركز اتصالات سيكون الأول والأقوى في العالم، والهدف الثاني  .. والهدف الثالث.. .
يقول المستر جراهام للدكتور بشير الرشيدي: في القرن التاسع عشر من سيطر على التوابل كان هو الأقوى في العالم، وفي عام 1857 استعمرت بريطانيا الهد فامتلكت توابل الهند وصارت الدولة التي لا تغيب عنها الشمس، وفي القرن العشرين من سيطر على النفط كان هو الأقوى في العالم، فسيطرت أمريكا على منابع النفط في الخليج، أما القرن الواحد والعشرين فإن من يسيطر على الاتصالات سيكون هو الأقوى يا دكتور، لا بد أن نملك قوة الاتصالات حتى تعود لبريطانيا صدارتها على العالم.
لقد أعلن المستر جراهام مخططاته لهذا المركز عام 1991، ثم مضى زمن لم يلتفت أحد له ولا لمخططاته، وبعد بضع سنوات من حفلته تلك، خصصت بريطانيا للمستر جراهام جزيرة ينفذ بها حلمه ويقيم بها مركزه، لقد خرجت الأحلام من رأس حاملها إلى أرض واقعه، لقد شيد المبنى وأصبح الحلم حقيقة لا مراء فيها .
توقعك هو واقعك، نطلب منك فقط أن تحلم وترى شيئاً لنفسك، كن كعمر بن عبد العزيز الذي يقول : إن لي نفساً تواقة، تاقت إلى فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها، وتاقت إلى الإمارة فتوليتها، وتاقت نفسي إلى الخلافة فأدركتها، وقد تاقت إلى الجنة فأرجو أن أدركها إن شاء الله عز وجل .
دخل الإخشيدي- الذي حكم مصر أيام عهد المماليك- مع صاحب له مقيداً بالحديد ، فمرا على رجل له شوي – أي مطعم ذلك الزمان – فقال صاحبه : أتمنى أن يشتريني صاحب هذا الشوي فأشبع لحماً، وقال الإخشيدي أتمنى أن أحكم مصر بأكملها .. ودارت الأيام واشترى صاحب الشوي ذلك المملوك، وحكم الإخشيدي مصر في قصة طويلة معروفة بالتاريخ.
كان الشيخ أقشمس الدين الذي تولى تربية السلطان محمد الفاتح العثماني – رحمه الله – يأخذ السلطان محمد بيده ويمر به على الساحل، ويشير إلى أسوار القسطنطينية التي تلوح في الأفق من بعيد شاهقة حصينة، ثم يقول له، أترى هذه المدينة التي تلوح في الأفق؟ إنها القسطنطينية، وقد أخبرنا الرسول أن رجلاً من أمته سيفتحها بجيشه، ويضمها إلى أمة التوحيد، فقال فيما روي عنه: لتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش.
ومازال الشيخ بالصبي يريه المدينة ويكرر على مسامعه ذلك الحديث الشريف ويشعره ببهجة النصر وعزة الفتح .. الأحلام تتحقق عندما تراها، تسمعها ، تشعر بها .. أنظر إلى جيشك وهو يدك القسطنطينية، اسمع هتافات التكبير، تذكر شعورك السعيد بالنصر حينئذ .. إن المعلم يرسم صورة واضحة ورؤية جلية لتلميذه، صورة يعيش معها ولها، يا له من حلم جميل وهدف كريم.
دعونا نكمل ما حصل لذلك التلميذ من تشجيع ذلك المعلم وتلك الرؤية المبكرة.. لقد نمت همة الأمير الصبي وترعرعت في قلبه، فعقد العزم على أن يجتهد ليكون هو ذلك الفاتح الذي بشر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .
كان والده السلطان مراد الثاني يصطحبه معه وهو صغير إلى بعض المعارك ، ليعتاد مشاهدة الحرب والطعان ومنظار الجنود في تحركاتهم واستعداداتهم ونزالهم، وليتعلم قيادة الجيش وفنون القتال عملياً، حتى إذا ما ولي السلطنة وخاض غمار المعارك، خاضها عن دراية وخبرة.
ولما جاء اليوم الموعود شرع السلطان محمد الفاتح يفاوض الإمبراطور قسطنطين ليسلمه القسطنطينية، فلما بلغه رفض الإمبراطور تسليم المدينة، قال – رحمه الله – حسناً .. عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر.

حاصر السلطان محمد القسطنطينية 51 عاماً، تعددت خلالها المعارك العنيفة، وبعدها سقطت المدينة الحصينة التي استعصت على الفاتحين قبله، سقطت على يدي بطل شاب له من العمر 23 سنة ، بتأييد سماوي ورؤية واضحة مبكرة وعمل دؤوب .. سقطت القسطنطينية.
اشتغل بأهداف أولاً ثم انشغل مع أهداف الآخرين، لتكن لك أهداف ورؤى خاصة بك، أهداف لك وحدك، أهداف تسهرك إذ ينام الآخرون، تشغلك إذ يغفل الآخرون، ترشدك إذ يتيه الآخرون.
وعندما تختار رؤيتك وأهدافك الخاصة ، استفت قلبك أولاً واسأله عما اخترت .. اسأله مرة بعد مرة ، أصغ إليه .. أصغ إليه جيداً .. ‘انه مرشدك ولن يضيعك، أنت خير الناس عن نفسك ، أنت تعرف ماذا تحب وماذا تتقن، أنت أعلم الناس بمهاراتك ومعلوماتك وأحاسيسك، افحص أهدافك تحت ضوء النهار، افحصها جيداً وناقشها مع نفسك، هل تسعدك وترويك هذه الأهداف؟ أم أنها أوهام نسجها لك الآخرون.
إن أهمية تحديد الهدف ليس فقط مهماً على المستوى الشخصي بل وحتى على المستوى الأممي، إليكم هذه القصة :
سنة 1950 كانت اليابان مدمرة تماماً ، خسرت خلال الحرب نسبة من الشباب أعلى مما خسرته أية أمة أخرى طوال 200 سنة الأخيرة، كانت مدنهم قد احترقت تماماً، فدعت اليابان إلى اجتماع استدعوا فيه القادة الحكوميين والقادة الصناعيين وقادة المجتمع التربوي، ليضعوا في هذا الاجتماع خطة يمكنهم بها توحيد المجتمع، ويحققوا هدفاً يعيد الكرامة الوطنية ويعيد الازدهار الاقتصادي لليابان .. وأخيرا قرروا أن هدفهم في الخمسينات هو أن يصبحوا الأمة الأولى في العالم في إنتاج النسيج.. فبلغوا الهدف.
سنة 1960 عقدوا اجتماعاً أخيراً وقالوا: ما هو هدفنا في هذا العقد؟
- العشر سنوات التالية – فقرروا تحقيق الحلم المستحيل ! قالوا لنصبح الأمة الأولى في العالم في إنتاج الفولاذ. لماذا كان هذا الهدف مستحيلاً ؟ لأن اليابان لا تملك الموارد الطبيعية، فلا فحم ولا نفط ولا حديد خام، كان عليهم استيراد الموارد الطبيعية والمواد الخام مسافة آلاف الأميال إلى أرضهم، وبناء معامل الفولاذ المتطورة، وتصنيع فولاذ من الدرجة الأولى، وإعادة شحنه مسافة آلاف الأميال، ثم بيعه بسعر تنافسي .. حلم مستحيل تماماً.
لكنهم لم ينظروا إلى مالا يملكونه بل نظروا إلى ما لديهم من إرادة العمل.. فبلغوا الهدف.
سنة 1970 عقدوا اجتماعاً آخر، وقالوا لنحدد هدف هذا العقد، نريد أن نصبح الأمة الأولى في إنتاج السيارات.. فبلغوا الهدف.
سنة 1980 قالوا في هذا العقد لنصبح البلد الأول في العالم في إنتاج الإلكترونيات والكمبيوتر.. فبلغوا الهدف.. إنه سحر الأهداف والرؤية الواضحة للجميع .
إن أصحاب الرؤى الواضحة والأهداف المحددة يتميزون بالآتي:
1-      يحققون أهدافهم وما يفوق أحلامهم:
في الدراسة التي أجريت على جامعة " ييل " الأمريكية عام 1953، سئل الخريجون عما إذا كانت لديهم أهداف واضحة ومحددة ومدونة في خطط لتحقيق هذه الأهداف، أظهر 3% فقط أن لديهم هذه الأهداف، وأن 97% منهم ليس لديهم أي أهداف واضحة أو محددة.
وبعد عشرين عاماً في عام 1973 اكتشف الباحثون من الأفراد الذين بقوا على قيد الحياة من خريجي دفعة 1953، أنالـ 3% الذين كانت لديهم أهداف محددة، كانوا يملكون من المال أكثر مما يملكه مجموعة النسبة الباقية مجتمعين والذين يبلغون 97%.
توصيف الخطة الوطنية الكبرى التي وضعتها ماليزيا منذ عام 1996 والتي رمز لها
 بـ (VISION 2020) وما نصت عليه من انضمام ماليزيا بحلول عام 2020 إلى مصاف الدول المتقدمة، هو أيضاً شاهد آخر على سرعة ونتائج الأثر الذي تحققه الرؤية الواضحة، ففي نهاية عاد 1999 – أي بعد 3 سنوات من إعلان الرؤية – كانت هناك أكثر من 90% من المدارس الماليزية قد تحولت إلى مدارس ذكية تطبق المفاهيم التقنية في تعلمها وترتبط بالانترنت .. يا لسرعة النتائج.!!
عندما كان بيل غيتس طالباً في السنة الدراسية الثانية في جامعة هارفارد وعمره 20 سنة قال : عندما يصبح عمري 30 سنة سأصبح مليونيراً، وأكون قد استطعت إدخال الكمبيوتر في كل بيت .. في عام 1975 كان إدخال الكمبيوتر في كل بيت يبدو حلماً سخيفاً.
عام 1976 يترك يل غيتس جامعة هارفارد وهو في السنة الدراسية الثالثة – برغم نجاحه فيها – ليتفرغ وبشكل كامل لشركته " مايكروسوفت " التي أسسها وعمره 19 عاماً .. وتمضي الأيام ليتحقق الناس جميعا من نبوءة بيل غيتس، لقد كان محقاً عندما تنبأ بأن يوماً من الأيام سيصبح الكمبيوتر جزءاً من حياة الناس اليومية، لكنه كان مخطئاً بأمر واحدٍ فقط ! عندما بلغ عمره 30 سنة لم يصبح مليونيراً، بل أصبح مليارديراً!
2-     أكثر تفاؤلاً واستقراراً وأمناً :
تبين من الإحصاءات الكثيرة أن أعدادا كثيرة من الناس تموت أو تصاب بأمراض نفسية وجسمانية بعد سن التقاعد. إحدى هذه الإحصاءات إحصائية كويتيه تشمل الذين يعملون لحساب غيرهم، وهي تشمل القطاع الحكومي كله ، تبين التالي:
- بعد سن التقاعد ( يعني 60 سنة تقريباً ) 1% في درجة الغنى.
- 4% وضعهم المادي جيد، ولكنهم لا يستطيعون الاستمتاع بحياتهم كيفما شاءوا كالسفر دورياً.
- 3% ما زالوا يعملون بحثاً عن الرزق .
- 38% ماتوا وتركوا أهلهم في معاناة مادية.
- 54 % عالة على التأمينات الاجتماعية أو الشؤون أو مساعدة أولادهم.
لماذا فقط الـ 5% ( مجموع نسبة الفئة الأولى والثانية ) في وضع جيد ؟ لأنهم أعطوا لأنفسهم أهدافاً يريدون تحقيقها، هناك الكثير من الناس يخشى وضع الأهداف مخافة الفشل، لكنهم يتناسون الخطر الأكبر إن لم يحددوا تلك الأهداف، هناك عدة مخاطر عندما تطير الطائرة، كسرعة الهبوط والإقلاع، وخطر تعرضها في الجو إلى صواعق، لكن الخطر الأكبر على الطائرة إن بقيت على الأرض هو الصدأ، فطيرانها في الجو يجعلها أقل عرضة للصدأ والتآكل.
فاجعل لك أهدافاً تحلق روحك لها، وتسعدك في لحظات إنجازها، وتضمن بها مقاومة الصدأ من روتين العمل أو مشنقة التقاعد.
اكتشف فيكتور فرانكل عالم النفس النمساوي اكتشافاً مهما خلال فترة اعتقاله في معسكرات النازية بهذا السؤال المهم : ما الذي جعل بعض الناس يعيشون هذه الخبرة المريرة " الاعتقال " بينما مات الأغلبية ؟! السبب الرئيسي الذي اكتشفه داخل الناجين من هذه المأساة هو وجود الإحساس بالرؤية المستقبلية.. لقد سيطر على كل من نجح في البقاء يقناً بان لهم مهمة في الحياة يجب استكمالها، وأن لهم مهاماً حيوية مازالوا في حاجة إلى الانتهاء منها.
3-     أكثر تركيزاً وتوجيهاً..
إنهم يعلمون ماذا يطلبون وماذا يتركون ..
رحل يحيى بن يحيى وهو صغير إلى الإمام مالك –رحمه الله - ، فسمع منه وتفقه عليه ، وكان مالك يعجبه سمته  وعقله، روي أنه كان يوماً عند مالك في جملة أصحابه، إذ قال قائل : " قد حضر الفيل " ، خرج أصحاب مالك لينظروا إليه وبقي يحيى مكانه ولم يخرج، فقال له مالك، لِمَ لا تخرج فترى الفيل لأنه لا يكون بالأندلس ؟
فقال له يحيى: إنما جئت من بلدي لأنظر إليك وأتعلم من ديك وعلمك، ولم أجيء لأنظر إلى الفيل. فأعجب به مالك وسماه " عاقل أهل الأندلس ".
لم يستكمل تاكيو أوساهيرا دراساته العليا، لقد ترك الدكتوراه والمركز والجاه وذهب إلى مصنع صهر الحديد، ذهب إليه عاملاً ببدله زرقاء، ثماني سنوات وحاله كحال مئات العمال في هذا المصنع، لا يعرفه أحد ولا يأبه به أحد، يخدم رئيسه حتى في وقت راحته .. اختار المصنع لأنه طريقه إلى أحلامه ومراده، الحالم يعرف ماذا يمسك وماذا يترك .. حقاً إن من يعرف المطلوب يحقر ما بذل.
جاء رجل من الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك: فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزاة غَنِمَ النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ، فقسَّمَ وقَسَمَ له، فأعطى أصحابه ما قُسِمَ له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوا إليه: فقال : ما هذا ؟ قالوا: قِسمٌ قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قال :
قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى ها هنا. وأشار إلى حلقه – بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن تصدق الله يصدقك" فلبثوا قليلاً، ثم نهضوا في قتال العدو، فَأُتِي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُحُمَل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو ؟ قالوا نعم، قال: صدق الله فصدقه. ثم كفَّنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته، ثم قدمه فصلى عليه، فكان مما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فَقُتِلَ شهيداً، أنا شهيد على ذلك.
أذكر لما كنت أستاذاً للعلوم والأحياء في مدرسة " يوسف بن عيسى القناعي" جاءني الأستاذ القدير والمربي الفاضل، أستاذ الكيمياء علي فراج – رحمه الله – المدرس الأول يزف لي بشرى سارة: قال لي : عندي خبر سعيد، ولكن قبل أن أقول لك هذا الخبر، يجب أن تَعِدُنا بإفطار محترم لقسم العلوم، فوعدته بالإفطار إن كان الخبر كما يقول خبراً سعيداً، أعطاني الورقة التي كان يخبئها في جيبه، قرأت الورقة، وإذا هي كتاب ترشيح لوظيفة مدرس أول لمادة الأحياء، كُتِبَ في أسفل الورقة كلمتين.. موافق، وغير موافق، ولابد أن أشير إلى إحداهما، اخترت الورقة وبدون تردد أشت بعد الموافقة.. لم يصدق المدرس الأول قراري هذا، فأخذ ينصح ويلوم، امسح ما كتبت وافق على الترشيح ولا تضيع الفرصة على نفسك.. ولم أرد على قولي له، إني أعرف ماذا أفعل، إني أطلب شيئاً آخر.
يقول زيج زيجلر في إحدى دوراته التحفيزية:
" أكثر من 80% من كل خريجي الجامعات في أمريكا، بعد مضي 10 سنوات على تخرجهم يعملون في حقل لا يمت بصلة أبداً إلى ما نالوا شهاداتهم فيه حينما كانوا في الجامعة.. يا لها من مضيعة للوقت لا تصدق".
احلم بأهدافك وهي تتحقق، تخيل وانظر إلى نفسك وأنت تحقق أحلامك، انظر إلى نفسك وأنت تبتسم وقد أصبحت رئيس شركة الكمبيوتر التي حلمت بها، انظر إلى نفسك في مكتبك العظيم وأنت تجلس على كرسيك الوفير، تخيل أنك تسمع ثناء الناس عليك، اسمع التهاني والتبريكات، تخيل شعورك السعيد، أنت الآن في أحلى اللحظات وأسعدها .. يا له من شعور عظيم.
الدكتور أحمد زويل الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1999 كان يكتب على دفاتره ويكتب على باب غرفته " الدكتور" وهو لم يزل طالباً في المراحل الدراسية الأولى، وكان والداه يناديانه بالدكتور أحمد.
عندما كان عمر الرسام العالمي ليوناردو دافنشي 12 عاماً، قطع على نفسه عهداً قائلاً: سأصبح واحداً من أعظم فناني العالم، ويوماً ما سأعيش بين الملوك، وأمشي جنباً إلى جنب مع الأمراء.
وعندما تسأل ديفيد بيكام قائد المنتخب الإنجليزي لكرة القدم، كيف حقق هذا النجاح مع فريقه ؟ وكيف وصل دخله السنوي عام 2002 إلى 12 مليون دينار كويتي؟ فإنه سيقول لك : كنت أحلم على الدوام أنني ألعب مع المنتخب الإنجليزي.
صدقني لن تحقق ما تريد إلا بعد أن تحلم وتحلم و تحلم... قال تعالى : " أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم " ... سورة الملك.. آية رقم 22.
Where there's a will, there's a way.
متى ما كان هناك عزم ، كان هناك سبيل.
بقي بن مخلد الأندلسي
يُحَدِّث بقي بقصته يقول: رحلت ماشياً على قدمي من بلدي الأندلس ( تدعى اليوم أسبانيا ) فذهبت إلى مكة ثم إلى بغداد – الطائرة تحتاج إلى 6 ساعات حتى تقطع هذه المسافة – فكم من الشهور مشى بقي بن مخلد حتى يقطع هذه المسافة ؟!
كان همي وبغيتي ملاقاة الإمام أ؛مد بن حنبل – رحمه الله – فلما دخلت بغداد بلغتني محنته وما حلَّ به ، وأنَّه ممنوع من ملاقاة الناس ، فاغتممت غماً شديداً .. لقد سُجِنَ الإمام أحمد سنتين وأربعة أشهر في مسألة خلق القرآن، ورفض موافقة الخليفة المأمون ومن بعده الخليفة المعتصم والخليفة الواثق، على القول بأَّن القرآن مخلوق، فسجنوه وعذبوه.
وفي هذا يقول الإمام أحمد بن حنبل : لما جيء بالسياط نظر إليها المعتصم وقال : ائتوني بغيرها ، ثم قال للجلادين : تقدموا، فجعل يتقدم إلي الرجل فيضربني سوطين ، فيقول له : شِد قَطَعَ الله يدك، ثم يتنحى ، ويقوم آخر ، فيضربني سوطين، وهو يقول في كل ذلك : شِدْ قطع الله يدك، فلما ضُربت 19 سوطاً، قام إليَّ وقال : يا أحمد علام تقتل نفسك ؟! إني والله عليك لشفيق، أتريد أ، تغلب هؤلاء ؟ وجعل بعضهم يقول : ويلك ، الخليفة على راسك قائم. وقال بعضهم يا أمير المؤمنين، دمه في عنقي، اقتله، فقال المعتصم: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم به.
فرجع المعتصم وجلس وقال للجلاد : تقدَّك واَوُجع قطع الله يدك، ثم قام المعتصم ثانية ، فجعل يقول : ويحك يا أحمد أجبني، فيجعل الناس يقبلون علي ويقولون: يا أحمد إمامك على رأسك قائم.
فقلت:لمعتصم يقول: ويحك أجِبْني إلى شيء لك فيه أدنى فرج، حتى أطلق عنك يدي. فقلت : يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئاً من كتاب الله. فيرجع، ويقول للجلادين:تقدموا. فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين ويتنحى. قال أحمد فذهب عقلي.
قال أحمد بن داود أبو سعيد الواسطي: دخلت على أحمد الحبس قبل الضرب، فقلت له في بعض كلامي: يا أبا عبد الله عليك عيال ولك صبيان: وأنت معذور – كأني أسهل عليه الإجابة – فقال لي أحمد:
إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد فقد استرحت. وبعد الضرب الشديد والسجن، خاف المعتصم أن يموت الإمام أحمد، فيثور الناس عليه، فرفع عنه الضرب وسلَّمه أهله، فبقى مختفيا طوال مدة خلافة المعتصم والواثق.
اشتد الواثق في مسألة خلق القرآن كثيراً، وساعده على ذلك وزيره أحمد بن أبي داود، الذي استولى على الواثق وَحَمَلَهُ على التشدد في المحنة، ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن، استمر الواثق على ذلك حتى ملَّ المحنة وسئمتها نفسه، فرجع عنها في آخر عمره.
هذا أبو عبد الرحمن بن محمد الآذرمي – شيخ أبو داود والنسائي – يُحْملُ مكبلاً بالحديد من بلاده إلى الواثق، فسأله ابن أبي دؤاد في مجلس الواثق عن قوله في القرآن ، فقال له الشيخ: هذا الذي تقوله يا ابن أبي دؤاد من خلف القرآن شيءٌ عَلِمَه الرسول وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أم جهلوه؟ قال ابن أبي دؤاد : بل عَلِموه. قال الشيخ: فهل دعوا الناس إليه كما دعوتهم أنت أم سكتوا؟ فقال : بل سكتوا. قال الشيخ: فهلا وسعك ما وسعهم من السكوت؟
فبُهتوا وضحك الواثق، وقام قابضاً على فمه وهو يقول هلا وسعك ما وسعهم ويكررها، ثم أمر أن يُعطى الرجل 300 دينار ويُرَدُ إلى بلده، ولم يمتحن أحد بعدها، وسَخِطَ الواثق على ابن أبي داؤد من يومئذ .
ويتابع بقي حديثه يقول ، أجَّرت بيتاً أنام فيه تلك الليلة ، وفي فجر اليوم التالي دخلت المسجد فإذا برجل يتكلم في الرجال – أي أنه يتكلم عن الرجال ، وهو العلم الذي يهتم بحال رواة الحديث، ويحدد أمانتهم وصدقهم وقوة حفظهم، فيقول عن هذا ثقة ، وع آخر ضعيف آخر كذاب، وهذا صدوق وها ينسى .. وهكذا – فقيل لي عن الرجل الذي يتحدث في المسجد ويتكلم عن حال الرجال: إنَّه يحيى بن معين، صاحب الإمام أحمد ورفيقه في طلب العلم، فأحببت أن أسأله عن بعض الرجال، فحاولت أن اقترب منه ففُرجت لي فرجة، فدنوت منه وقمت إليه ، فقلت له : يا أبا زكريا رحمك الله ، رجل غريب بعيد عن وطنه يحب السؤال ولديَّ أسئلة كثيرة فابر عليَّ.
فقال : قل، فسألت عن بعض من لقيته من الرجال، فبعضاً زكَّى وأثنى عليهم وبعضاً جَرَحَ وبيَّن سوء حالهم في الحديث، فسألته عن هشام بن عمار، فقال لي : أبو الوليد صاحب صلاة دمشق ثقة وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبرٌ أو متقلداً كبراً ما ضره شيء لخيره وفضله.
فصاح أصحاب الحلقة التلاميذ يحيى بن معين: يكفيك رحمك الله، غيرك له سؤال. فقلت : لم يبق لي إلا سؤالٌ عن رجل واحد، أحمد بن حنبل. فنظر إليَّ يحيى كالمتعجب، فقال لي: ومثلنا نكشف عن أحمد ! ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم. فخرجت من المسجد من فوري استدل على منزل أ؛مد بن حنبل، فدُللت عليه فقرعت بابه، فخرج إلىَّ.
فقلت يا أبا عبد الله، رجل غريب بعيد عن بلده، هذا أول دخولي هذا البلد وأنا طالب حديث ومقيد سُنَّة، ولم تكن رحلتي إلا إليك لأتعلم منك.
فقال لي: وأين موضعك؟
قلت: المغرب الأقصى.
فقال: إفريقية.
فقلت: أبعد من إفريقية، أجوز من بلدي البحر إلى إفريقية، بلدي الأندلس.
قال: إن موضعك لبعيد، وما كان شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك، وابذل لك كل ما استطيع، غير أني ممتحن بما لعله قد بلغك، وأنا الآن لا يُسمح لي بملاقاة الناس والتحدث إليهم، إني مسجون في بيتي.
فقلت: لقد بلغني ما أنت فيه، وهذا أول دخولي بلدكم وأنا مجهول العين عندكم لا يعرفني أحد، فإن أذنت لي أن آتي كل يوم في ثياب الفقراء، فأقول عند بابك ما يقوله الفقراء والشحاذون، فتخرج إليََّ عند بابك، فلو  لم تحدثني كل يوم إلا حديثاً واحداً لكان لي فيه كفاية.
فقال لي: نعم، على شرط ألا تظهر في الناس ولا يتعرف عليك أحد ولا تذهب إلى مجالس المحدثين.
فقلت: لك شرطك ، فكنت أخذ عصاً بيدي وأَلُفَ رأسي بخرقة متسخة واجعل أوراقي في كُمِّي وأتي بابه، فأصيح: الأجر رحمك الله * وهذا ما ينادي به الشحاذون في بغداد – فيخرج أحمد إلى ويدخلني بيته ويغلق بابه دوني، ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر، فالتزمت ذلك حتى مات الخليفة الممتحن له الخليفة الواثق، وولي بعده من كان على مذهب السنة الخليفة المتوكل، فقد أظهر ميلاً عظيماً إلى السنة، فرفع المحنة وكتب بذلك إلى الآفاق واستقدم المحدثين إلى سامراء وأجزل عطاياهم وأكرمهم، وتوفر دعاء الخلق للمتوكل وبالغوا في الثناء عليه وتعظيمه، حتى قيل الخلفاء ثلاثة، أبو بكر الصديق في قتال أهل الردة ، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم، والمتوكل في إحياء السنة.
فنصر المتوكل أحمد ونكَّل بأعدائه، فظهر أحمد وعلت إمامته وكانت تضرب إليه آباط الإبل، حتى بلغ منزلة لم يبلغها ملك ولا قائد ولا أمير.
لم ينس الإمام أحمد معاناتي معه في طلب العلم ، فكان يَعْرف لي حق صبري، فكنت إذا أتيت حلقته العظيمة وهو بين تلاميذه، فسَّح لي وأوسع في مجلسه، ويقص على أصحاب الحديث قصتي معه ، فكان يقرأ علي الحديث وأقرؤه عليه.
ومرت الأيام وأنا على تلك المكانة عند أحمد ، حتى أصابني مرض فأرقدني في سريري، ففقدني من مجلسه فسأل عني، فأُعْلِم بعلتي، فقام من فوره مقبلاً علي عائداً لي بمن معه، وأنا مضطجع في البيت الذي كنت قد أجَّرت، وكسائي عليًّ وكتبي عند رأسي، فسمعت الدار قد ارتجت بأهلها، وأنا أسمعه يقولون: هو ذاك أبصروه، هذا إمام المسلمين مقبلاً.
فأسرع إليَّ صاحب الدار قائلاً: يا بقي هذا أحمد بن حنبل إمام المسلمين مقبلاً عليك عائدٌ لك، فدخل الإمام أحمد وجلس عند رأسي وقد امتلأ الفندق من أصحابه فلم يسعهم، حتى صارت فرقة منهم في الدار وقوفاً وأقلامهم بأيديهم، فما زادني على هذه الكلمات، قال لي : يا أبا عبد الرحمن أبشر بثواب الله، أيام الصحة لا سقم فيها، وأيام السقم لا صحة فيها، أعلاك الله إلى العافية، ومسح عنك بيمينه الشافية. فرأيت الأقلام تكتب لفظه، ثم خرج عني.
فأتاني أهل الدار يلطفون بي ويخدمونني، فواحد يأتي بفراش، وآخر بلحاف، وآخر بأطايب الأغذية، وكانوا في تمريضي أكثر من تمريض أهلي لو كنت بين أظهرهم.
قام بقي بن مخلد القرطبي الأندلسي برحلتين إلى مصر والشام والحجاز وبغداد طلباً للعلم، امتدت الرجلة الأولى أربعة عشر عاماً، والثانية عشرين عاماً .. ولد كان ارتحاله كله من الأندلس، وعلى قدميه !! نعم .. والله على قدميه!!
الذين يختارون الطرق السهلة... لن يصلوا أبداً إلى القمة .
كيف أصبح بقي بن مخلد عظيماً ؟
لعل الكثيرين من متسلقي الجبال تمنوا تسلق قمة إفرست في جبال الهملايا، ولا أدري كم واحدٍ منهم نهض لهذه الأمنية وباشر العمل؟ وكم واحد منهم كانت له هذه الأمنيات أحلام ليل وانتهت؟
وما نَيْلُ المطالبِ بالتمني          ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قومِ منالٌ      إذا الإقدامُ كان لهم ركابا
في عام 1998 شاهدت في سينما الآي ماكس في مدينة دنفر الأمريكية فيلماً وثائقياً عن تسلق قمة إفرست -  قمة جبل عظيمة ارتفاعها عن الأرض 8848 متراً – إنَّ مخاطر تسلقها عظيمة جداً، مات الكثيرون من المتسلقين دونها أ, ين صخورها، والقبور الكثيرة بين جنباتها تشهد بذلك، ومع هذا صمم المتسلق أن يصعد الجبل، هي أمنيته وهدف حياته، والأماني لا تتحقق إلا بالعمل الجاد والمثابرة الدائمة.
أبارك في الناس أهل الطموح      ومن يستلذ ركوب الخطر
 لكنني قبل أن أخبركم بما فعله هذا المتسلق، دعوني أضف لكم كيف تكون الرحلة إلى قمة إفرست؟ وما هي المخاطر التي تحيط بهذه الرحلة ؟ فقط حتى تعرفوا بوصفي المكتوب وليس المجرب، ماذا يعني الوصول إلى قمة إفرست؟ وما هو حجم الجهد المبذول للوصول إلى القمة ؟
السقوط المفاجئ، الانهيارات والعواصف الثلجية، قلة الأكسجين، والمخاطر الصحية جعلت ك لسنة متسلقين محترفين يصلون إلى القمة بنجاح، هناك متسلق واحد يموت، هذا هو المعدل، ولذلك تسمى قمة إفرست منطقة الموت The Death Zone ، عام 1996 وفي يوم واحد فقط مات دون القمة 8 متسلقين محترفين، نقس الأكسجين وانخفاض الضغط الجوي نتيجة صعود هذه الارتفاعات يعرض المتسلق إلى مشاكل صحية كثيرة منها الجفاف ، صعوبة النوم ، صعوبة التنفس، السعال الحاد، الصداع ... لكن أخطرها مرض الهايباكسيا – نقص الأكسجين في المخ – وفيه يفقد المتسلق وعيه أ, يموت في الحال ، ومرض بولموناري ديما Pulmonary Edema  الذي يصيب الرئتين ، فنتيجة لانخفاض الضغط الجوي الكبير، تبدأ سوائل الجسم بمعادلة هذا الانخفاض، فتبدأ الأوعية الدموية في الرئتين بتسريب السائل البلازمي داخل الرئتين، فتمتلئ الحويصلات الهوائية بالسائل البلازمي، ولا يستطيع المتسلق بعدها أن يأخذ أي كمية أكسجين خارجية، فيبدأ معدل الأكسجين داخل جسمه في الانخفاض السريع، ويبدأ بعدها بالسعال، فيخرج السائل البلازمي عبر أنفه وفمه ، وبعدها ينهار الجسم كله ليتوقف التنفس ويموت في الحال ... أقول كل هذه الأخطار والأمراض رغم أعلى درجات التدريب والتكنولوجيا، ورغم كل تمارين اللياقة البدنية والفحوصات الطبية قبل الرحلة وفي أثنائها وبعدها.
في السابق كان المتسلقون يستغرقون عدة أسابيع للوصول إلى المخيم الأساسي Base Camp  ، والآن فإن الهليكوبتر تختصر عليهم جزءاً من الوقت ، حيث تحلق بهم الهليكوبتر إلى قرية إرتفاعها2743م ، ثم يكمل المتسلقون الرحلة من القرية إلى المخيم الأساسي، وتستغرق هذه الرحلة 10 أيام، وفي المخيم الأساسي – على ارتفاع 5364 م – يخيم المتسلقون عدة أيام وذلك من أجل أن يتكيف الجسم على الارتفاع العالي وانخفاض الضغط الجوي، وفيه أيضاً يُجري المتسلقون الكثير من الفحوصات البدنية والعقلية للتأكد من سلامة أعضائهم.
وبعدها ينطلق المتسلقون إلى المخيم الأول – على ارتفاع 5944 م – وبعدها يرجعون مرة أخرى إلى المخيم الأساسي، وذلك ليتدرب ويتكيف الجسم على اختلاف الضغط الجوي – يحتاج الجسم إلى وقت طويالثالث.لتكيف – وبعدها ينطلق المتسلقون إلى المخيم الأول من جديد ثم إلى المخيم الثاني- 6492 م – وفيه يخيم المتسلقون لعدة أيام للراحة وللتكييف مع انخفاض الضغط، وفيه تُجْرَى للمتسلقين الكثير من الفحوصات الطبية والعقلية. وبعدها ينطلقون إلى المخيم الثالث – 7315 م – وبعد الوصول إلى هذا المخيم يرجع المتسلقون إلى المخيم الثاني ثم الأول ثم المخيم الأساسي، وبعدها ينطلقون من جديد إلى الأول ثم الثاني ثم الثالث .. جدول طويل وممل للياقة البدنية والتكيف .. يا للصبر والتحمل!
وعند التسلق من المخيم الثالث إلى الرابع، تشاهد خطوات المتسلق المتباطئة، فكل خطوة يخطوها يمكث عندها برهة من الزمن، حتى يأخذ المتسلق قدر ما يستطيع من الأكسجين، لأنه لن يستطيع أ، يؤدي أي جهد بدني بدون هذه الراحة والتنفس العميق، ومن تأخذه الحماسة للوصول بسرعة إلى القمة بدون هذه الاستراحات فإن جسمه سرعان ما ينهار ويهوي صريعاً في الحال.
وعند الوصول إلى المخيم الرابع – 7924 م – فإن المتسلقين يشاهدون المئات من اسطوانات غاز الأكسجين المتناثرة التي استهلكها من سبقهم من المتسلقين، ففي هذه المنطقة يبدأ السعال وصعوبة التنفس وفيه يستحيل على المتسلق أ، يكمل مسيرته إلى القمة بدون مساعدة كمامات الأكسجين.. أتدرون كم استغرقت الرحلة حتى وصل المتسلق المخيم الرابع ؟ شهرين كاملين .. شهرين من المخاطر والتحديات.
وفي لحظة الوصول إلى المخيم الرابع، فإنه لا يفصل المتسلقين عن قمة إفرست إلا 24 ساعة، وهي تشمل الاستراحة والفحص الطبي وإعداد الحقائب والتسلق الأخير للقمة. لقد بدأ المتسلقون رحلتهم الأخيرة إلى القمة، رحلتهم ذات التنفس الصعب والخطوات الثقيلة.. بدأ التسلق حيث الموت وتسلق الحواف والحوائط الرأسية المهلكة.
حتى إذا ما مضى المتسلقون، وتسلقوا وتسلقوا، وحتى إذا لم يلهم، قمة إلا 91 متراً، 91متراً لكنها ستستغرق ساعتين من التسلق ذي الخطوات البطيئة جداً.. في هذه الأمتار القليلة سيواجه المتسلقون أخطر وأكبر تحدٍ لهم ، إنه تسلق قمة حافة السكين Knife Edge Ridge  وفيها يكون الخطأ مميتاً، الخطأ في هذه الحافة سيهوى بك وعلى كلا جانبيها إلى 2438م .. فراقب خطواتك .. وقبل أن أصل بك إلى القمة، وبعد هذا الوصف الطويل لتسلق قمة إفرست دعونا نعود للمتسلق الذي شاهدت فيلمه الوثائقي في سينما الآي ماكس.
شرع المتسلق في صعود الجبل الأشم، والذي لم أعتقد وأنا أشاهد الفيلم أن يصرع هذا الجبل أحد من الناس، هل يستطيع الإنسان أن يقهر كل هذا الارتفاع الشاهق ؟! كثيراً ما توقعت سقوط هذا المتسلق، لكنه ظل يتسلق ويتسلق، وهي النهاية وبعد صراع مع الموت ولمدة عشرات الأيام .. بلغ ذلك المتسلق مراده، لقد بلغ قمة إفرست، وما أ، حطَّ قدمه على القمة ووضع علم بلاده عليها حتى دمعت عيناي .. الإنسان قهر الجبل .. لقد أدركت أنَّ عملنا الجاد يصنع المستحيل.
إذا غامرت في شرفٍ مروم       فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمرٍ حقير         كطعم الموت في أمر عظيمٍ
لم يبلغ بقي بن مخلد شهرته بين أهل الحديث إلا بمثابرته تلك، تمنى بقي أ، يكون من أهل الحديث، تمنى أن يلاقي أحمد بن حنبل في العراق، أمنيات جميلة، لكن من يفكر أن يرحل إلى هناك؟
أرْحَلُ من أسبانيا إلى العراق؟ كم من الوقت سأظل أمشي؟ سينتهي زادي ومائي في الطريق؟ كم من الوحوش ستتجاذب لحمي؟ كم من ليلٍ أدهم سأسير فيه؟ إنه الهلاك الأكيد .. لكنها أمنيات العظماء أصحاب الهمم العالية، الذين يصدقون أحلامهم بالعمل.
ونحن أناسٌ لا توسط عندنا       لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا        ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر
هذا أبو أيوب الأنصاري – رضي الله عنه – يرحل من المدينة المنورة إلى عقبة بن عجلس. رضي الله عنه – بمصر يسأله عن حديث سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قَدِم إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري أمير مصر، خرج إليه فعانقه، ثم قال له: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ قال:  حديث سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه من غيري وغير عقبه، فابعث من يدلني على منزله، فبعث معه من يدله على منزل عقبة، فخرج إليه عقبة فعانقه، وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه منه غيري وغيرك في ستر المؤمن، قال عقبة: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( من ستر مؤمناً في الدنيا على خزيه ستره الله يوم القيامة ))، فقال أبو أيوب: صدقت.
ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعاً إلى المدينة، وما حَلَّ رحله وما جلس .. حديث واحد أراد أن يتأكد من لفظه، فيرحل إليه من المدينة المنورة إلى مصر.
هذا عمرو بن أبي سلمه يقول للأوزاعي: يا أبا عمرو .. أنا ألزمك منذ أربعة أيام ولم أسمع منك إلا ثلاثين حديثاً، قال: وتستقل ثلاثين حديثاً في أربعة أيام؟ لقد سار جابر بن عبد الله إلى مصر واشتري راحلة فركبها حتى سأل عقبة بن عامر عن حديث واحد وانصرف إلى المدينة، وأنت تستقل ثلاثين حديثاً في أربعة أيام.
هذا الإمام سعيد بن المسيب يقول: إني كنت لأسافر الأيام والليالي في الحديث الواحد.
وهذا الإمام أحد بن حنبل يقول: رحلت في طلب العلم والسنة إلى الثغور والشامات والسواحل والمغرب والجزائر ومكة والمدينة والحجاز واليمن والعراقين " الكوفة والبصرة" جميعاً ، وفارس وخراسان والجبال والأطراف ثم عدت إلى بغداد .. أحمد الذي عَمِلَ حمالاً في اليمن لمّا نفدت نفقته وهو يطلب العلم عند عبد الرزاق الصنعاني.
قال الحافظ أبو حاتم الرازي: أَحْصَيْتُ ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ ( يساوي خمسة آلاف كيلو متر )، لم أزل أحصي حتى لما زاد على ألف فرسخ تركته، ولا أحصي كم مرة سرت من الكوفة إلى بغداد، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، وخرجت من البحر من قرب مدينة سلا إلى مصر ماشياً، ومن مصر إلى الرملة ماشياً، ومن الرملة إلى بيت المقدس، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى طرطوس، ثم رجعت من طرطوس إلى حمص، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل، ومن النيل إلى الكوفة، كل ذلك ماشياً .. كل ذلك ماشياً، هذا في سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة أجول سبع سنين، خرجت من الري سنة 213هـ ورجعت سنة 221هـ.
رحل الحافظ ابن منده في طلب الحديث وعمره 20 سنة، ورجع وعمره 65 سنة، كانت رحلته 45 سنة ، عاد إلى وطنه شيخاً فتزوج وهو ابن 65 سنة.
قال الحافظ محمد بن طاهر المقدسي: سمعت الحديث في أكثر من 40 مدينة، وَبُلْتُ الدم في طلب الحديث مرتين، مرة ببغداد وأخرى بمكة، كنت أمشي حافياً في الحر فأصابني ذلك، وما ركبت قط في طلب الحديث، وكنت أحمل كتبي على ظهري.
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى               فما انقادت الآمال إلا لصابر
وإليك أعجب من هذا .. قال الإمام ابن القاسم: رحلت من بلدي مصر إلى مالك في المدينة، وجلست عنده أتعلم 17 ابني.ما بعتُ فيها ولا اشتريت، فبينما أنا عنده دخل علينا شاب ملثم، فسلَّم على مالك وقال: أفيكم ابن القاسم؟ فأُشير إليَّ، فأقبل يقبل عيني، ووجدت منه ريحا طيبة، فإذا هي رائحة الولد، وإذا هو ابني.. وكان ابن القاسم ترك زوجته حاملاً ه وكانت ابنة عمه، وقد خيرها عند سفره بين أن يطلقها أو يبقيها على ذمته – وذلك لطول إقامته – فاختارت البقاء.

إن الذين سمع منهم الحافظ ابن عساكر وتعلم منهم 1300 شيخ، ومن النساء بضع وثمانون امرأة، وبلغ شيوخ ابن منده 1700 شيخ، وبلغ شيوخ أبي الفتيان عمر الرواسي 3600 شيخ، أما الإمام السمعاني فقد رحل إلى 162 مدينة وسمع من 7000 رجل.
أيها القارئ الكريم.. كم من العمر والجهد بذل هؤلاء العلماء كي يسمعوا من كل هؤلاء الرجال ؟ كم من المسافات قطعوا حتى تتحقق تلك الأمنيات؟ لعلك الآن أدركت لماذا لمعت أسماء هؤلاء العلاء العظماء بين أهل الحديث .. إنه العمل والجهد المتواصل.
وإذا النفوس كنَّ كبارا           تعبت في مرادها الأجسام
كان الإمام البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه مراراً، فيوقد السراج ويكتب الفائدة التي تمر بخاطره، ثم يطفئ السراج، ثم يقوم مرة أخرى، حتى كان يتعدد منه ذلك قريباً من عشرين مرة .. البخاري الذي منعته عفة نفسه أن يسأل الناس شيئاً عندما نفدت نفقته مرة، فأكل من حشيش الأرض.
يقول ابن الجوزي عن نفسه: " إنني لو قلت أنني طالعت 20 ألف مجلد كان أكثر وأنا بعد في الطلب" ويقول: " كتبت بإصبعيَّ هاتين ألفي مجلد"  .
الإمام أحمد بن عبدوس صلى الصبح بوضوء العشاء 30 سنة، 15 سنة في دراسة، و 15 سنة في عبادة.
و عن جعفر بن دُرُسْتويه قال : كنا نأخذ المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس غد، فنقعد طوال الليل مخافة ألاَّ نلحق من الغد موضعاً نسمع فيه.
قال ابن أبي حاتم، كنا بمصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقه، نهارنا ندور على الشيوخ، وباللي ننسخ ونقابل، وفي طريقنا مرة رأينا سمكة أعجبتنا فاشتريناها، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس الشيوخ فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثة أيام وكادت أن تنتن، فأكلناها نيئة لم نتفرغ نشويها، ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد.
سَهَري لتنقيح العلوم ألَذُ لي          من وصلِ غانيةٍ وطيبِ عناقِ
وتمايلي طرباً لِحَلِّ عويصةٍ           أشهى وأحلى من مُدامةِ ساقِ
وصريرُ أقلامي على أوراقها         أحلى من الدُّكاهِ والعشاقِ
وألذُ من نقر الفتاة لدفها               نقري لأُلقي الرمل عن أوراقي
يا من يحاول بالزمان رتبتي           كم بين مستفلٍ آخر راقي
أأ بيت سهران الدجى وتبيته           نوماً وتبغي بعد ذلك لحاقي
يقول الشيخ والإمام الحافظ إبراهيم الحربي: أفنيت من عمري 30 سنة برغيفين، إن جاءتني بهما أمي أو أختي أكلت، وإلا بقيتُ جائعاً عطشان إلى الليلة الثانية، وأفنيت 30 سنة من عمري برغيف في اليوم والليلة، إن جاءتني امرأتي أو إحدى بناتي به أكلته، وإلا بقيتُ جائعاً عطشان إلى الليلة الأخرى.
وقال عبيد بن يعيش: أقمتُ 30 سنة ما أكلتُ بيدي بالليل، كانت أختي تلقمني وأنا أكتب الحديث.
أيها القارئ.. لا يحق لك أن تتساءل عن سر عظمة هؤلاء العظماء، لقد كشفت لك السر.. دعني أهمس لك به مرة أخرى، قرب أذنيك مني.. اسمع .. إن سر العظمة هو العمل بلا يأس، والمثابرة بلا فتور، قال ابن الجوزي: " البكاء ينبغي أن يكون على خساسة الهمم" .
 عام 1945 بين يدي الفلكي الكويتي صالح العجيري كتاباً في علم الفلك يسمى " الزيج المصري " للمؤلف المصري الأستاذ الكبير عبد الحميد مرسي غيث، فقرأه العجيري مراراً وتكراراً إلا أن بعض المعلومات عجز عن همها، فتوجه إلى مصر للقاء مؤلف الكتاب ليشرح له ما خفي عليه من معلومات وألغاز، فاستقل السيارة من الكويت إلى البصرة، ثم القطار البخاري إلى بغداد، ثم إلى بلاد الشام بسيارات شركة " نيرن "  العملاقة، ثم إلى بيروت بالسيارة، ومنها بالباخرة إلى الإسكندرية، ثم بالقطار إلى القاهرة، ثم بالباص إلى محافظة الشرقيه، ثم بالسيارة إلى قرية ( ميت النخاس)، ثم على ظهر الدواب بين بساتين القرية إلى منزل المؤلف، وجده عجوزاً يزيد عن الثمانين عاماً، فظل في ضيافته فترة طويلة حيث تلقى على يديه الكثير من علوم الفلك، وأرشده إلى الكثير من الكتب والمؤلفات، ثم وجهه إلى القاهرة ليستزيد ن علوم الفلك. فتوجه العجيري إلى جامعة الملك فؤاد الأول، وتخصص في علوم الفلك، فأتم الدراسة فيها وتفوق بنجاح، ثم توجه إلى مدينة المنصورة في شمال مصر واستكمل دراسته الفلكية هناك.. عام 1952 انعقدت بالمنصورة اللجنة الفلكية العليا للاتحاد الفلكي المصري، وقررت منح العجيري الشهادة الفلكية العلمية الثانية تقديراً لأبحاثه العلمية القيمة، وقررت اللجنة عدَّهُ عضواً من  أعضاء الاتحاد العاملين.. وبعد هذه الرحلة العلمية الطويلة التي دامت 7 سنوات عاد إلى الكويت.
استمر طلبه لعلم الفلك من خلال البحث والاطلاع والرصد والاستكشاف ومراسلة المراصد العلمية والمؤسسات العلمية الفلكية وزيارتها، فزار بريطانيا وأمريكا وسويسرا وألمانيا وفرنسا وتركيا وإيران والعراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين والسعودية والسودان وتونس والجزائر، وشارك في كثير من المؤتمرات الفلكية العربية والدولية .. عام 1981 منحته جامعة الكويت ولأول مرة في تاريخها شهادة الدكتوراه الفخرية تقديراً لجهوده وتميزه وإسهاماته.
يقول الدكتور العجيري في كلمته للشباب وقد تجاوز الثمانين سنة:
" وغاية ما أقدمه إليكم أن تجعلوا العلم أسمى أهدافكم، وإنَّ المرء يدرك بالعلم ما لا يدركه بسواه. ليس هناك معلم يستطيع أن يهبك العلم مثلما تهبه أنت لنفسك، فأنت خير معلم يستطيع أن يهبك العلم مثلما تهبه أنت لنفسك، فأنت خير معلم لذاتك، وبنفسك ترقى إلى سلم المجد. ويقيني أن كل إنسان يوطد العزم على أن يحصل على مبتغاه من المعرفة أو أي عرض من الدنيا فإنه سيبلغه لا محالة، سيبلغه بالجد والاجتهاد والعمل الدءوب والإخلاص والتفاني" .
أسمعتم كلمات هذا الفلكي الناجح بعد رحلة طويلة مع الدنيا ماذا قال عن سر النجاح؟ الجد، الاجتهاد، والعمل الدءوب.
عندما تمشي في شارع جيرارد الواقع في مدينة لاهويا في سان ديغو، سترى محلاً جميلاً تزين واجهته صوراً طبيعية لا أقول عنها جميلة بل غاية في الجمال، وستعجب وأنت تدخل هذا المحل الرائع من جسمك الذي توقف فجأة !! وعيناك اللتان بدأتا وكأنهما مسحورتان!! ولسانك الذي بدأ يردد سبحان الله، سبحان الله!! ما الذي جرى؟! .. إنك بلا شك تقف عند صورة كتب تحتها Catch of the day إنها صورة دب عند مصب النهر يفتح فمه لابتلاع سمكة قفزت فوق الموج.
سألت مشرفة هذا المحل الجميل عن هذه الصورة فقالت: أولاً إني أرحب بك في أحد فروع المصور الأمريكي المشهور توماس مانجلسن.. هذه الصورة كان توماس يخطط لالتقاطها مدة أربع سنوات، وعندما قرر التقاط هذه الصورة ومباشرة العمل، ذهب بعدته إلى مصب النهر ونصب خيمته هناك، ثم جلس أسبوعاً كاملاً حتى ينجح في التقاط صورة واحدة فقط لمنظر تكرره الدببة عشرات المرات كل يوم، منظرها وهي تقف عند مصب النهر بانتظار ابتلاع السمك الذي يقفز فوق الأمواج.. المشكلة كانت عند توماس في سرعة الحدث، كيف ينجح في التقاط صورة تحدث بوقت هو أقل من الثانية، حدثٌ تعجز يد الإنسان عن مجاراته.
قرر توماس أن يخرج كل يوم من الفجر وحتى الغروب لمدة سبعة أيام كاملة.. لعله ينجح في التقاط صورة واحدة فقط لذلك المنظر الرائع، نصب كاميرته قريباً من مصب النهر، وأخذ يلتقط لهذه الدببة كل يوم عشرات الصور، حتى إذا انتهى من اليوم الأخير، رجع إلى معمل تحميضه ومعه عشرات الأفلام، وهو لا يدري أنجح فيما يبغي أم لا؟
وكم كانت فرحته عندما فاز بصورة واحدة فقط من بين مئات الصور لتلك اللقطة الجميلة: Catch of day.
تفكير مستمر، وانقطاع عن ملهيات كثيرة، وصبر على خلوة موحشة، وعمل جاد ولمدة سبعة أيام من فجرها حتى غروبها لالتقاط صورة واحدة فقط.. ويتساءل البعض .. لماذا اشتهر توماس مانجلسن من بين آلاف المصورين وتعددت فروعه؟!

أيها القارئ حدد أهدافك ثم امض لها كما مضى إليها هؤلاء، استرخص لها كل غالٍ وعزيز، أعطها أفضل أوقاتك، أترك لها ساعة من نومك، دع مجالس الكلام والعبث، واسأل الله التوفيق وتوكل عليه، فإنه لن يضيعك.
كان الفرنسي لويس باستور ابن قرية، وكان أبوه دباغ جلود، وكانت عائلته فقيرة ومعدمة، وعلى الرغم من الفقر والجوع الذي عاناه، إلا أنه انكب على القراءة والمطالعة والبحث، حتى نسي ما كان يعانيه وعندما بدأ دراسته لم بُعْرَف برجاحة خاصة في عقله، بل قال عنه معلمه: إنه ولد وديع ورقيق ولكنه بعيد كل البعد عن الذكاء، لقد كان معلمه لا يثق به، ويتنبأ له بالفشل، إلا أن رأيه بنفسه كان يختلف. لذلك كان ملحاحاً في طلب العلم، فكان يمطر معلمه بالأسئلة.
يقول باستور: أهم ثلاث كلمات هي  الإرادة والصبر والعمل، إنها أحجار الزاوية في النجاح، وعليها سوف أبني بنائي في الحياة. وقال أيضاً: بالإرادة تُفتح مصاريع الأبواب وتُسَهَّل الصعاب، في رحلة تتطلب الصبر والإيمان .. بهذه الاعتقادات والعدة راح باستور يخوض حياته فماذا حصل؟ لقد أنقذ الله على يديه الملايين من المرضى باكتشافاته الطبية العظيمة، التي كان أهمها التعقيم والتطعيم، وأسس علم الميكروبيولوجي – علم الأحياء الدقيقة – كما أن أبحاثه على دودة القز قد أدت إلى نتائج اقتصادية هائلة.
عندما مات ابن الدباغ الفقير في 28/8/1895، كان قد أصبح بطلاً قومياً يفتخر به الفرنسيون، وترك وراءه معهداً للأبحاث يحمل اسمه في باريس، ويعد هذا المعهد واحداً من أهم المراكز العلمية في عالم الطب في العالم.. هذا ما فعله باستور صاحب الدرجة المتوسطة في الكيمياء لما كان طالباً في الجامعة، لكنه سر العزيمة التي يُمحى عندها حدود المستحيل ويُكَذَّبُ بها تصنيف المصنفين .. المصنفين الذين قالوا إن قدراتنا محدودة.
هل تعرف مندل؟ إنه العالم النمساوي، مؤسس علم الوراثة، لقد توصل إلى قوانينه الوراثية المشهورة بعد مثابرة دائمة وصبر جميل، حيث أنه استمر يزاوج في سبع سنين بين أكثر من 21 ألف نبات.
لم يتصدر صاحب شركة مايكروسوفت " بيل غيتس" قائمة الأغنياء بسبب قدرات عقلية خارقة، بل لأنه كان يبدأ يومه من الساعة الرابعة فجراً، ويأكل البيتزا الباردة، ويعمل أكثر من 16 ساعة يومياً، وأحياناً كثيرة يبقى طوال الليل في مكتبه، حتى نجح هذا المثابر وعمره 14 عاماً من تأسيس شركته " مجموعة مبرمجي ليك شايد للكمبيوتر " وبعد خمس سنوات ينجح مرة أخرى ويؤسس عام 1974 شركته العملاقة " مايكروسوفت " وعمره 19 عاماً.
بقدر الكد تُكتسب المعالي           ومن طلب العلا سهر الليالي
تروم العز ثم تنام ليـــــلاً            يغوص البحر من طلب اللآلي
صدقنني إنني لا أتكلم في كتابي هذا عن المحظوظين.. أنا لست عرافاً أو مُنجماً، ما سطع اسم مشهور إلا وكان الكفاح والعمل له عادة، لن تكون عظيماً إلا بعمل مستمر وجهد متواصل، لقد سأل رجل إبراهيم الحربي قائلاً: كيف قويت على جمع هذه الكتب؟ فغضب إبراهيم الحربي وقال: قويت عليها بلحمي ودمي.. بلحمي ودمي.
قيل للشعبي من أين لك هذا؟ - أي كل هذا العلم – فقال: ببذل الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبكور كبكور الغراب.
قد تكون إلى هذه اللحظة غير مقتنع بما سقته لك من الأدلة عن هذا السر، سر الاجتهاد والعمل والمثابرة، إذن سأزيد، فتابع وترقب.
قرأ الفيلسوف العالم محمد الفارابي كتاب " النفس" لأرسطو 100 مرة كي يفهمه، وقرأ أيضاً كتاب " السماع الطبيعي " لأرسطو 40 مرة.
وقرأ ابن سينا كتاب " ما وراء الطبيعة " لأرسطو فلم يفهم ما فيه، فقرأه 40 مرة، فحفظه ولم يفهم أيضاً ما فيه، حتى وقع بيده من دون قصد كتاباً للفارابي اشتراه من دلال بسوق الورَّاقين بثلاثة دراهم، فإذا بهذا الكتاب يشرح ما سطره أرسطو في كتابه ما وراء الطبيعة .. وبعدها فهم ما كان يقصده أرسطو حرفاً حرفاً.
وابن التبان عبد الله بن اسحاق يدرس المدونة في الفقه المالكي نحو الألف مرة.
اكتشف العالم باول إيرلش مخدراً يمكن أن يشفي من مرض الزهري Syphilis. وقد أطلق باول على الدواء رقم 606، وهو رقم المحاولة التي نجح من خلالها في التوصل إلى التركيبة في شكلها الأخير.
إذا استصعب عليك أمرٌ ما، فحاول مرة بعد مرة حتى تنجح .. ولا تنسَ أنَّ قطرات الماء المتتابعة تحفر أخدوداً في الصخر الأصم
لما كان شاباً صغيراً يحاول أن يحفظ الحديث، حاول وحاول وحاول لكنه فشل أن يكون كغيره من الشباب الذين حفظوا الكثير من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، لقد كاد اليأس يتمكن من قلبه وكاد الفشل يلاحقه طول حياته. قرر يوماً أن يمشي بين بساتين القرية، فأخذ يمشي طويلاً واليأس قد أحاط بقلبه وعقله، فاقترب من بئرٍ في وسط بستان، فجلس قرب البئر وراح يفكر، وفي أثناء جلوسه قرب البئر لاحظ أن الحبل المعلق في دلو البئر قد أثر بالصخر الذي يحيط برأس البئر، فقال في نفسه: لقد أثر هذا الحبل الضعيف بهذا الصخر الصلد، لقد فتت الصخر من كثرة الاحتكاك صعوداً ونزولاً، إذن هو التكرار والزمن. فقرر هذا الشاب أن يحاول مرة ثانية في حفظ الحديث، لكنه عاهد نفسه أن يحفظ الحديث حتى لو كرره 500 مرة، فمضى يحاول ويحاول ملتزماً عهده، حتى كانت أمه تمل من تكراره وترحم حاله. ومع مرور الزمن وقوة الإصرار والمثابرة، استطاع أ، يحفظ القرآن ويفتي الناس ويُدرس وعمره دون العشرين. فألف التصانيف والمؤلفات الكثيرة. واستحق لقب شيخ الإسلام وإمام الحرمين.. إنها قصة الفقيه الموسوعي أحمد بن حجر الهيتمي.
دببتُ للمجد والساعون قد بلغوا           جُهْدَ النفوس وألقوا دونه الأزرا
وكابدوا المجدَ حتى ملَّ أكثرُهم             وعانق المجد من أوفى ومن صبرا
لا تحسب المجدَ تمراً أنت آكلهُ             لن تبلغ المجدَ حتى تلعق الصَّبِرا
إذا زرت متحف القاهرة، فسوف تشاهد قطعاً مبهرة تماماً، مأخوذة من قبر توت عنخ آمون، جزء كبير من الطابق الثاني من تلك العمارة الهائلة مملوءة بكنوز تتلألأ، مجوهرات من الذهب والحجارة الثمينة، قلائد، آنية من الذهب والمرمر، عربات خيل مذهبة، توابيت من العاج والذهب مصنعة ببراعة لا يمكن تجاوزها اليوم، كان يمكن أن يبقى هذا الكنز الذي لا يُصَدِّق أحد قيمته تحت الأرض لولا.. لولا هذا المثابر.
هوارد كارتر خبير الآثار والتاريخ يجري دراسته للبحث عن كنز توت عنخ آمون المدفون في مكان ما في أرض مصر.. وبعد الدراسات المكثفة والاطلاع على مئات الأبحاث، يحدد هوارد مكان الكنز.. عملية التنقيب هذه مكلفة جداً، لابد لها من ممول يتحمل كل التكاليف المتعلقة بعملية التنقيب.. لقد وجد هوارد ضالته وأقنع احد المهتمين الأثرياء في دعم مشروعه وتمويله.
بدأ فريق هوارد وفريق العمل يدق الفؤوس على المكان الذي حدده هوارد، وبعد مضي أيام على حفر هذا المكان، تبين أنهم في المكان غير المقصود.. دخل هوارد خيمته وأخذ يعيد حساباته وقياساته.. هذه المرة لابد أن تكون قياساتي دقيقة.. عرف هوارد خطأه وحدد مكاناً آخراً دلت الحسابات على صحته، فانتقل العمال إلى الموضع الجديد وبدأوا الحفر.. وبعد أيام تبين أنهم أيضا في المكان غير الصحيح.
لقد بدأت الشكوك تساور ممول المشروع عن كفاءة وخبرة هوارد في البحث والتنقيب، لقد ضيَّع وقته وأمواله في عمل لا طائل من ورائه. ضاعت الأموال والجهود في هذا الوادي الموحش.. طلب هوارد الصبر والتريث من ممول المشروع.. إنك يا سيدي ستجني الكثير من الأموال إن ربحنا.. حسناً يا هوارد سأعطيك فرصة أخرى، هيا استمر.
أعاد هوارد حساباته وقياساته وحدد الأماكن التي لا يجاوزها هذا الكنز بحال من الأحوال، وبدأ الحفر في كل هذه الأماكن، وبعد العمل الجاد والحفر الدائم المستميت، تبين أن كل الأماكن التي رسمها هوارد لعماله كانت خاطئة.. وهنا يصرخ ممول المشروع الثري: هيا يا هوارد لنرحل من هنا، لنرحل عن هذا الوادي، إنك حقا قد ضيعت وقتي ومالي.
وبينما يجهز العمال أنفسهم للرحيل، أخذ هوارد خريطة الوادي بسرعة وبدأ ينظر لها من جديد، لا بد أنه هنا.. سأجري آخر حساباتي لن أيأس.. وبسرعة يرسم هوارد آخر موضع للحفر ويحدد للعمال موضع الحفر.. يسمع ممول المشروع بأمر هوارد لعماله بالحفر رغم كل تلك المحاولات الفاشلة التي أجراها هوارد في هذا الوادي، يصرخ هذا الممول بوجه هوارد، ويطلب منه الرحيل وعدم هدر المزيد من الجهد والمال.. كف عن هذا يا هوارد.. المحاولات كلها فاشلة. سيدي أعطني آخر فرصة.. فرصة واحدة فقط أرجوك.. فقط واحدة .. حسناً يا هوارد.
ثم يقول هوارد في هذه اللحظة المبكية.. وما كدنا نضرب معولاً واحداً في الأرض في آخر جهد يائس، حتى حققنا اكتشافاً فاق أكثر أحلامنا شططاً بكثير.. إنه كنز توت عنخ آمون.
قال العالم باستور: دعني أطلعك على السر الذي أوصلني إلى هدفي، إن قوتي الوحيدة تكمن في صلابتي وإصراري.
وقال العالم وهامتون – من علماء الرياضة - : إن كشف الوقائع الجديدة في العلوم الطبيعية، مفتوح على مصراعيه لكل غبي يتمتع بالصبر والمهارة اليدوية والحواس المرهفة.
ويقول المشير مونتكومري – أبرز القادة العسكريين البريطانيين – لقد تعلمت في حياتي الخاصة، أن ثلاث صفات ضرورية للنجاح: العمل الشاق، والاستقامة المطلقة، والشجاعة الأدبية.
يقول وينستون تشرتشل Winston Churchill رئيس وزراء بريطانيا السابق: إياك ثم إياك ثم إياك والفرار .. هذا ما يقوله تشرتشل الذي رسب في الصف السادس، والذي كان أكسل تلاميذ فصله.
وكذلك يقول وليم جيمس – أبو علم النفس الحديث – إن الفرق بين العباقرة وغيرهم من الناس العاديين ليس مرجعه إلى صفة أو موهبة فطرية للعقل، بل إلى الموضوعات والغايات التي يوجهون إليها هممهم، وإلى درجة التركيز التي يسعهم أن يبلغوها.
أديسون يقول : إن العبقرية هي 1% إلهام، و 99% عرق جبين .. أديسون الذي ظل يحاول أكثر من 10000 محاولة لاكتشاف مصباحه الكهربائي.
وهذا تاكيو أوساهيرا الذي ظل يشتغل للوصول إلى هدفه أكثر من 17 سنة، لم يُصب من النوم فيها إلا القليل.
وهذا أيضاً محمد الفاتح الذي يُروى عنه أنه كان ينام على خرائط الحرب وهو يخطط لغزو القسطنطينية.
وهذا وارنر فون براون الذي أدرك أن الأخطاء عامل جوهري في عملية التعلم، ففي أثناء الحرب العالمية الثانية تمكن وارنر من تطوير صاروخ خطط الألمان لاستخدامه في قصف لندن، لكن الصاروخ لم يكن جاهزاً للعمل، فكل تجارب إطلاقه كانت فاشلة، فاستدعاه رؤساؤه الألمان للمثول أمامهم لمواجهته بعد أن وصل عدد ما ارتكبه وارنر من أخطاء 65121 خطأ !! فأجابهم:م عدد الأخطاء الأخرى التي ستقع فيها حتى تتمكن من صناعة هذا الصاروخ على النحو الأكمل ؟! فأجابهم : إنه ربما سيقع في 5000 خطأ آخر وبعدها قد ينجح في تصنيعه !!! في النصف الثاني من الحرب العالمية الثانية، ضربت ألمانيا أعداءها بقذائف " وارنر" ذاتية الدفع، إذ لم تكن أية دولة تمتلك هذا السلاح.
لقد نجح وارنر بعد أكثر من 70 ألف تجربة فاشلة، وهكذا العظماء لا يستسلمون أبداً مهما تركت الأخطاء، لأنهم يدركون أن الأخطاء ضريبة الإتقان، وأن الفشل ليس بعدد ما تقوم به من أخطاء، بل هي اللحظة التي تقرر فيها التوقف عن المحاولة .. عندما تختار الاستسلام.
هل سمعت بكتاب اسمه " الكهرباء" ؟ إنه للمؤلف وعالم الكهرباء الأمريكي بنيامين فرانكلين، هذا الكتاب ولجلالة قدره وقدر مؤلفه، ترجم إلى لغات كثيرة منها الفرنسية والألمانية والإيطالية.
فما قصة هذا العالم المثابر؟
دولد فرانكلين لوالدين عيالهم كثير، 17 طفلاً، ترتيبه بينهم الخامس عشر، ولما بلغ الثامنة من عمره، أُرسل إلى المدرسة، ثم أوقفه أبوه عن الدراسة بعد عامين فقط، وذلك لعجزه عن سداد رسوم المدرسة، ثم أضطر فرانكلين للعمل مع والده في محل للشموع يملكه، وسرعان ما تعلم فنون الطباعة في مطبعة أخيه جيمس الذي كان يُصدر جريدة أسبوعية.
كان فرانكلين يقرأ الكتب التي تقع في يده جميعها، وغالباً ما كان يدفع من قوته ثمناً لها، لقد علَّم هذا الطفل الفذ نفسه بنفسه، ومن غير أن يذهب إلى أي مدرسة أو أن يجلس إلى أي أستاذ ..  لقد برع فرانكلين في علوم الحاسب والجبر والهندسة والملاحة وقواعد اللغة والمنطق .. إنها المثابرة والعمل الجاد الذي حصل بهما فرانكلين على لقب ( نيوتن عصره ) .
الأعمى ديفيد هارتمان كانت أمنيته أن يدرس الطب، وكلن كل الذين يعرفونه يعتقدون جميعاً أن يستحيل عليه ذلك، حتى أسرته. في ربيع 1972 أوشك ديفيد أن ينهي الثانوية بمعدل كاد يبلغ حد الكمال ( 3.8) من أربع نقاط، وتقدم بطلب الانتساب إلى عشر كليات طبية، وفي مطلع إبريل تسلم رفضاً من ثمان كليات، ثم وصل الرفض التاسع، وبعد وقت قصير تلقى ديفيد رسالة موافقة من جامعة تمبل، ومع هذا القبول دخل ديفيد معركة التحدي، دروس التشريح التمهيدية انطوت على مشكلات خاصة تتعلق به، هو وإن استطاع أن يغوص بيديه المحميتين بقفازين من المطاط داخل الجثث لتلمس مواضع الأعضاء الكبيرة وتعرف هيئتها، إلا أن تعرف الأعضاء الأصغر حجماً والأكثر تستراً مثل الضفائر العصبية استوجب استخدام يديه العاريتين، وهذا ما أقحمه في سباق لتعلم الأشياء الضرورية قبل أن تفقد أصابعه حاستها بسبب ملامسة محلول الفورمالدهيد الذي يستخدم في المختبر لوقاية نماذج الكائنات من الفساد. أما صعوبة علم الأنسجة وهو الدراسة المجهرية لتكوين الأنسجة فلا تقارن صعوبتها لديفيد بشيء. ولذلك تعين عليه أن يعتمد في هذه الدراسات على أساتذته وزملائه في وصف ما يرونه بالمجهر، وعلى تلمس رسوم حفرت بأسلوب شبيه بطريقة برايل أعدها له أستاذه.
راح ديفيد ينظم مكتبة خاصة به، تحوي المراجع التي يحتاج إليها في دراسته، وزودته مجموعة من متطوعي " جمعية التسجيل للمكفوفين " مجاناً بأشرطة سجلت عليها ثلاثين مجلداً من الكتب المقررة على ديفيد. وما كاد ديفيد يباشر سنته الطبية الثانية حتى وجد نفسه غارقاً في حال ميئوس منه، فحتى يمكنه متابعة ست محاضرات في اليوم الواحد، قام ديفيد بتسجيل المحاضرات كلها على آلة واحدة، ثم نقل الأشرطة إلى بيته لتسجيل ملخصات لها على آلة ثانية ، لكن هذا الأسلوب كان يتطلب قرابة الساعتين لتسجيل ملخص محاضرة من ساعة واحدة ، أي أنه كان في حاجة إلى اثنتي عشرة ساعة يومياً لإتمام واجباته الدراسية المنزلية .. معاناة وجهد متواصل لكن بروح لا تعرف اليأس.
مرت الأيام والسنون حتى جاء يوم 27/5/1976 الذي تسلم ديفيد فيه شهادة الدكتوراه في الطب، وبعد مرور بضعة أسابيع على تخرجه، احتفلت جمعية التسجيل للمكفوفين ذات مساء بمناسبتين مهمتين: مرور 25 سنة على تأسيس الجمعية، ووقوع حدث عظيم في تاريخها، إذ اقتحم أشد رعاياها طموحاً ميدان الطب، وأشاد رئيس الجمعية بديفيد وهو يقدم إليه جائزة مؤسسة الجمعية، لأنه أظهر انتصار الروح البشرية، ثم قال: إننا نشعر بهذا المثل الذي ضربه لنا ديفيد هارتمان بأن إيماننا بالإمكانات غير المحدودة للناس جميعهم قد تجدد، وبأن الحماسة تصنع المعجزات.
لماذا ينجح هذا الأعمى ويهزم عشرات المراجع الطبية الضخمة، ونتشكك نحن الطلاب أصحاب الحواس السليمة من قهر الكتب المقررة علينا، رغم سهولتها وكثرة المحذوف منها؟ حتماً ليس الجواب بأننا لا نملك القدرات الذهنية المطلوبة لذلك، إن عقلنا جبار يملك قدرات هائلة، لكن الجواب أنا فقدنا المصدر الحقيقي للدافعية والحماسة وهو الهدف الواضح، ولأن الكثير منا قد استسلم عند العقبة الأولى أ, الثانية.
أقول : المثابرون فقط هم من يستطيعون تحقيق الحلم المستحيل.
الكولونيل هارلند ساندرز هل تعرفه؟
إنه ذلك الشيخ الكهل الملتصقة صوره بعلب الكنتاكي، إنه صاحب خلطة الدجاج السرية، الذي عمل مزارعاً في ولاية أنديانا وهو في سن العاشرة بأجر شهري يعادل دولارين، ثم قاطع تذاكر على أحد باصات النقل، ثم جندياً لمدة ستة شهور في كوبا، ثم إطفائياً في السكك الحديدية، درس القانون بالمراسلة، وعمل في القضاء، وأدار شركة عبارات نهرية، كما عمل في مجال التأمين وبيع الإطارات، ثم أدار محطات استراحة الركاب على الطرق، وبعد أن بلغ الأربعين راح يعد وجبات للمسافرين على الطرق في محطات الاستراحة. لم يكن لديه مطعم يومها إلا أنه كان يبيع وجباته من فوق مائدة طعامه الخاصة وفي غرفته الصغيرة المتواضعة الملتحقة بمحطة الاستراحة تلك.. ولما راحت أعداد الناس تتزايد طلباً لطعامه، انتقل إلى فندق صغير عبر الشارع من المحطة حيث افتتح مطعماً صغيراً يتسع لـ 142 زبوناً، ثم راح يطور خلطته السرية تلك على مدى 9 سنوات .. تلك الخلطة المكونة من 11 عشبه طبيعية وأنواعاً مختلفة من البهارات.
عُرض على الكولونيل ساندرز مبلغ 164 ألف دولار مقابل أن يبيع مطعمه، وكان ذلك في عام 1953، لكنه رفض، ولكن بعد سنوات ولسوء الحظ، تغيرت خرائط تعبيد الطرق، ولم يعد مكان المطعم جيداً، مما اضطره إلى بيعه بالمزاد العلني مقابل 75 ألف دولار، ولم يكن هذا المبلغ يكفيه لتسديد ديونه .. وبعد هذه المصيبة وخسارته كل شيء، قرر ساندرز أن يتقاعد ويصرف من مدخرات الضمان الاجتماعي، وكان أول شيك من مؤسسة الضمان الاجتماعي هو 105 دولار، استلمه وعمره آنذاك 63 عاماً، كان يعلم أن هذا المبلغ لن يفعل له ولا لزوجته شيئاً، ولكنه لم يستسلم.. فراح يحاول بيع حقوق استثمار طريقته في صنع الدجاج، فسافر بين الولايات الأمريكية يجوبها من مطعم إلى مطعم.. هل تعرفون عدد المطاعم التي رفضت التعامل مع ساندرز وسخرت منه ؟ خمن كم مرة حاول هذا الشيخ أن ينجح؟ عدد المطاعم التي رفضت طلبه 1008 مطعم – ولمدة عامين – وعند محاولته رقم 1009 نجح في بيع أول حق استثمار. كان يعطي حق الاستثمار مقابل كلمة شرف ووعد أن يُدفع له مبلغ زهيد جداً مقابل كل دجاجة مقلية تطبخ على طريقته يبيعها المطعم.
ومع حلول عام 1964 أصبح لدى ساندرز أكثر من 600 فرع لبيع الدجاج يعمل بموجب ترخيصه في أمريكا وكندا، وكان هذا التوسع والنجاح أكبر من أن يتحمله ساندرز وزوجته و167 عاملاً كانوا يعملون في مبنى مجاور خلف منزله، لذا قرر أن يبيع امتياز مطعم كنتاكي إلى براون جونيور، لذا قرر أن يبيع امتياز مطاعم كنتاكي إلى براون جونيور وإلى المليونير جاك ماسي، مقابل مليون دولار، وراتب شهري مدى الحياة قدره 40 ألف دولار – رُفعَ بعدها إلى 75 ألف دولار – مقابل الاستشارات والدعاية ومقعد له في مجلس إدارة الشركة.. بعدها ارتفع عدد أصحاب الامتياز في عام 1971 – أي بعد سبع سنوات من بيع حق الامتياز – إلى 3500، قبل أن تشتريها شركة هيوبلن.
توفى الكولونيل ساندرز في عام 1980، وفي العام 1982 أصبحت مطاعم كنتاكي جزءاً من شركة رينولدز، وفي العام 1986 أصبحت مطاعم كنتاكي جزءاً من شركة بيبسي كولا مقابل 840 مليون دولار، وغيرت الشعار من كنتاكي فرايد تشيكن إلى شعار KFC، حتى لا تعطي الشركة انطباعاً بأنها تبيع الدجاج المقلي فقط.. في عام 1987 افتتح أول مطعم لكنتاكي بالصين، وفي نهاية عام 2004 بلغ عدد مطاعم KFC أكثر من 11000 مطعم منتشرة في العالم.
عظماء خلدت أعمالهم أسماءهم، عرفوا ما يطلبون
فما زالوا في عمل وصبر حتى نالوا ما طلبوا
أَمْلى شمس الدين السرخسي كتابه المبسوط في الفقه الحنفي والذي يتألف من 30 جزءاً ( 15 مجلداً )، ويقع في آلاف الصفحات، أملاه على تلاميذه وهو مسجون في بئر، لأنه رفض أن يعطي فتوى باطلة للحاكم في ذلك الزمان.
يروي الخطيب البغدادي أن أبا جعفر الطبري – صاحب تفسير جامع البيان – قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فقال: 30 ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره في 3 آلاف ورقة ( 15 مجلداً ). ثم قال: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحواً مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال: إنا لله.. ماتت الهمم! ثم أملاه على نحو قدر التفسير وأسماه " تاريخ الأمم والملوك ".
تفوق غير العربي سيبويه ( أبو بشير الفارسي) على أقرانه من العرب، فكان إمام النحو و حجة العرب وله من العمر 32 سنة، وتفوق غير العربي الزمخشري -  هو من خوارزم بقرية اسمها زمخشر – على أقرانه من العرب، فألف الكشاف في التفسير، وكتاب المفصل في النحو وكتب أخرى .. لِمَ تفوق هؤلاء؟ إنها شدة البأس والمثابرة المستمرة.
وإليك قصة أخرى أضيف بها دليلاً آخر على صدق ما أقول..
كان يحيى النحوي ملاحاً يعبر الناس في سفينته، وكان يحب العلم كثيراً فإذا عبر معه قوم من دار العلم والدرس التي كانت بجزيرة الإسكندرية، أخذوا يتحاورون فيما مضى لهم من النظر ويتفاوضون، فكان يسمع كلامهم فتهش نفسه للعلم، فلما قوي رأيه في طلب العلم فكر في نفسه وقال: قد بلغت نيفاً وأربعين سنة، وما ارتضيت بشيء ولا أعرف غير صناعة الملاحة، فكيف يمكنني أن أتعرض لشيء من العلوم؟!
وفيما هو يفكر إذ رأى نملة قد حملت نواة تمر، وهي دائبة تصعد بها، فوقعت منها فعادت وأخذتها، ولم تزل تجاهد مراراً حتى بلغت بالمجاهدة غرضها، فقال: إذا كان هذا الحيوان الضعيف قد بلغ غرضه بالمجاهدة والمناصبة، فالأحرى أن أبلغ غرضي بالمجاهدة أيضاً. فخرج من وقته وباع سفينته ولزم دار العلم، وبدأ يتعلم النحو واللغة والمنطق، فبرع بهذه العلوم واشتهر بها، ولذلك نُسب إليها وسُمِّي بالنحوي.
ظل الفريق الصيني محتفظاً بالكأس الذهبي لطاولة التنس لمدة طويلة، وفي أولمبياد سنة 1984 سُئل المدرب عن كيفية تمرين فريقه اليومي، فأجاب: نتدرب 8 ساعات كل يوم لنكمل قوانا.. فلسفتنا أنه إذا نَمَت مراكز قوتك إلى أقصى حد، فستصبح قوتك كبيرة لدرجة تستطيع معها التغلب على نقطة ضعفك.
وسأل الصحفيون الشابتين البالغتين من العمر 21 سنة، وهما البطلتان الروسيتان أنستاسيا دافيدوفا وأنستاسيا أيرماكوفا عن سر فوزهما بالميدالية الذهبية للسباحة في دورة الألعاب الأولمبية بأثينا صيف 2004، فقالا: إننا نستعد لهذا الحدث منذ 15 عاماً، لقد استغرق هذا الإنجاز سنوات طويلة من الاستعداد .. لقد بدأنا التدريب وعمرنا ست سنوات !
لقد أدركت المؤسسات المحترفة صانعة الأبطال قيمة الجهد والعرق والتخطيط المنظم في صناعة العظماء، فأولت اهتمامها بهؤلاء الموهوبين منذ أن كانوا صغاراً، ونجحت هذه المؤسسات في زرع قيمة المثابرة والعمل المتواصل عند هؤلاء الأبطال.
يقول الدكتور بدر ملك في كتابة " تعليقه أصول التربية" :
من اللطائف التربوية الرائعة للشيخ الشعراوي – رحمه الله – أنه أكد على أهمية التدريب في قصة عصا موسى عليه السلام، إذ تدرب على إلقاء العصا في الصحراء قبل مواجهة فرعون، فيقول الشعراوي، هكذا يعملنا الله أنه لا مهمة دون تدريب.
يقول الله تعالى – تأكيداً على أهمية العمل والتدريب –: ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشدَّ تثبيتا ).
إنك لو استوقفت أما أمريكية وسألتها عن سبب نجاح أو ضعف أداء ابنها في المدرسة، لأرجعت ذلك إلى القدرات الفطرية.. ابني ذكي .. ابني متوسط الذكاء .. ابني غبي .. وهكذا. ولكن ماذا لو استوقفت أماً يابانية وسألتها السؤال نفسه ماذا ستكون الإجابة؟ إنها ستكون وبالاتفاق عند كل الأمهات اليابانيات إنه يرجع إلى حجم المجهود المبذول، ابني أخذ درجة عالية لأنه بذل مجهوداً كبيراً .. ابني أخذ درجة ضعيفة لأنه بذل مجهوداً متواضعاً.
إنه وبرغم إقرار المعلمين اليابانيين بوجود فوارق في القدرات، إلا أنهم لا يجوز لهم تصنيف الطلاب إلى فئات بناء على قدراتهم، وكأنها رسالة واضحة من المعلمين إلى الطلاب تقول: إن الفروق التي تشاهدونا في درجاتكم ترجع إلى حجم ما بذلتموه من مجهود وعمل مركز.
ولذلك فإن بريسيلا بلنكو – الباحثة بجامعة ستانفورد الأمريكية – تؤكد أن المعلمين اليابانيين يؤمنون بأن الطلاب كافة يمكنهم الإنجاز إن هم ثابروا وتحملوا المصاعب.
إن اليابانيين يعشقون كلمة "قامبارو Gambaru " لأنها تعني عندهم المثابرة والاستمرار، أو بذل المرء قصارى جهده
على قدر أهل العزم تأتي العزائم            وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها            وتصغر في عين العظيم العظائم
وجد مطور اختبارات الذكاء والباحث في مجال تربية الموهوبين والمتفوقين العالم الأمريكي لويس تيرمان، أن عباقرة التاريخ لم يكن يميزهم الذكاء المرتفع جداً فحسب، ولكن الرغبة في التفوق، والدأب والمثابرة في مواجهة العقبات، والحماسة في ممارسة مواهبهم.

يعتبر يعقوب بن إبراهيم ( أبو يوسف ) من أشهر تلاميذ الغمام أبي حنيفة رحمه الله، فقد صحب أبا حنيفة 17 عاماً، ولما مرض أبو يوسف مرة، قال أبو حنيفة عنه: إن يمت هذا الفتى فهو أعلم من عليها. كان أبو يوسف قاضي الآفاق ووزير الخليفة هارون الرشيد وزميله في حجة، وكان الرشيد يبالغ في إجلاله .. لعل من يقرأ هذه السطور يظن أن أبا يوسف ولد بموهبة عقلية خاصة وبذكاء فائق، كيف لا وهو قاضي القضاة ووزير الرشيد.. لكن ليس الأمر كذلك، فقد ولد أبو يوسف بعقلية عادية، ولكن المثابرة كانت هي سر تألقه، يقول أبو حنيفة له وهو شيخه وأدرى الناس به: كنت بليداً فأخرجتك المواظبة وإياك والكسل فإنه شؤم وآفة عظيمة.
أخي لن تنال العلم إلا بستةِ          سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاءِ وحرصٍ واجتهادٍ وبلغةٍ        وإرشادٍ أستاذٍ وطولِ زمانِ
يقول الطبيب والكيميائي الفرنسي باستور: إن أهم ثلاث كلمات في القاموس هي: العزيمة، والعمل، والصبر.
لا تظن أن اكتشاف ناقل مرض الملاريا والمتسبب فيه كان أمراً سهلاً، لا تظن أن الاكتشاف كان من تجربة بسيطة، لا تظن أن وراءه عقلاً ذكياً قد أُلهم الاكتشاف والعلاج، لقد كانت وراءه روحٌ مثابرةٌ جادةٌ. روحٌ عملت بإخلاص لإنقاذ ملايين البشر من هذا المرض القاتل.
هاهو الطبيب الإنجليزي رونالد روس يوجه شكَّه إلى البعوض .. البعوض هو حامل مرض الملاريا .. لكن أي نوع من البعوض؟! أي نوع من البعوض هو الذي يحمل المرض؟! هنا كانت المشكلة، هناك مئات الأنواع من البعوض ومن الصعب تحديد هوية النوع القاتل، هذا الغموض سيجعل مهمة الكشف عن المجرم الحقيقي تبدو مستحيلة، ما العمل؟ إن ترك المحاولة في اكتشاف المرض يعني موت الملايين من البشر، ستقضي الملاريا على الأطفال والنساء والرجال .. لن يترك المرض أحداً، إذاً إنه سباق زمني مع مجرم مجهول،  لابد من كشفه.. لابد من العمل جاد. لذلك قرر رونالد أن يرحل إلى مدينة كلكتا الهندية حيث الجو الاستوائي الشديد الحرارة الشديد الرطوبة.. قرر أن يرحل إلى المكان الذي ينتشر فيه البعوض بأنواعه وأشكاله.
ما أن وصل إلى هناك حتى بدأ العمل سريعاً وبدأ في تشريح البعوض، عليه أن يشرح أنواعا مختلفة من البعوض لعله يجد في أحشاء إحداها أي دليل على وجود الميكروبات القاتلة.. لم تكن المهمة سهلة، فعلى رونالد أن يعمل في هذا الجو الرطب الحار دون أن يستخدم أي مروحة هوائية! أو حتى مروحة صغيرة !! لقد كان هواء المروحة ينثر قطع البعوض أثناء التشريح، فعليه أن يحافظ على ثبات هذه القطع تحت عدسة المجهر حتى يلاحظ ما تخبؤه بين أنسجتها من أدلة عن المرض وعن المجرم المجهول وإلا فلن يكون للتشريح أي فائدة، لذلك قضى كل ساعات العمل في هالة من العرق كانت تتدفق من جسمه، قضى كل ساعات العمل دون تكييف أو تبريد، كان يقضى نحو ساعتين في تشريح كل بعوضة وفحصها .. كان يشرح وآلاف البعوض يهاجمه في معمله دوم هوادة ولا مهادنة.
يا له من صبر! يا له من تحمل! لكن هل ستصمد؟ إلى متى يا رونالد وأنت تتحمل كل هذه اللسعات الموجعة؟ إلى متى وأنت تسبح في عرقك؟ تذكر يا رونالد أنك من إنجلترا بلد الطبيعة الخلابة والهواء البارد المنعش.. عد يا رونالد إلى وطنك واستمتع بصوت الجداول وتغريد البلابل.. كان هذا حديث النفس لرونالد، النفس التي تمل العناء والتعب، النفس التي تدعوك إلى الراحة والسكون، هي النفس التي إن سلمتها قياد نفسك قادتك إلى الحياة التي لا طعم لها، أكل وشرب ونوم ومتعة زائفة وهكذا اليوم الذي بعده والذي بعده، حياة تخلو من المواجهة والمكابدة والإنجاز.. وما ادري ما لذتها! حوار طويل مع النفس.. ولا أدري ما أنت فاعل يا رونالد!
لم يتخاذل رونالد بل كان دؤوباً في بحثه وعمله، كان رونالد يحمل سر اللذة الحقيقية ! كان يحمل روح المثابرة.. كان دافعه في الاستمرار ألمه المتواصل لرؤية أطفال العالم وهم يئنون من حمى هذا المرض.. لابد من الاستمرار.
فمضى يشرح البعوض حتى شرح أكثر من 100 بعوضة ولم يجد أي دليل على ميكروب المرض، استمر يا رونالد.. فاستمر يشرح حتى وصل العدد 200 ولم يجد شيئاً، فمضى يشرح ويشرح حتى وصل العدد إلى 500 بعوضة، ولم يكن هناك أي مؤشر على الاقتراب من الميكروبات القاتلة!!
يا رونالد إن كل بعوضة يستغرق تشريحها وفحصها الساعتين، هذا يعني انك قضيت ألف ساعة في الرطوبة والحر! ألف ساعة من هجوم البعوض ولسعاته! لكنها روح العظماء التي لا تتأثر بسلبية المحيط وإحباطاته.. روح الناجحين التي لا تيأس من استمرار المحاولة، فمضى رونالد يشرح ويشرح.
عام 1902 استحق الطبيب المثابر رونالد روس جائزة نوبل في الطب لاكتشافه بعوض الملاريا ونجاحه في تتبع أدواره الطفيلية.. لقد اهتدى إلى الميكروب القاتل واستحق الجائزة لأنه ظل مستمراً في التشريح.. شرح أكثر من 1000 بعوضة!!!
انفصلت سنغافورة واستقلت عن ماليزيا عام 1965، لكن في عام 2002 أي بعد 37 عاماً من استقلالها، أصبحت سنغافورة الدولة الأولى على العالم في الرياضيات والدولة الثانية بعد تايلاند في العلوم!! ومن حقك أن تتساءل كيف نجحت سنغافورة بتطوير تعليمها بهذه السرعة؟ لقد رفعت سنغافورة شعارات التحفيز في كل مكان، فعلى خطوط الطيران رفعت شعار " نحن الأوائل " على المدارس تجد شعارات الإنجاز والتفوق، لكن كان أهم شعارات الدولة على الإطلاق، والذي كان محرك الجميع للتطوير، هو شعار البقاء.. والبقاء في نظري هو الاستمرار في العمل بلا توقف أو هو العزيمة والمثابرة المستمرة.

اطلب العلم ولا تكسل فما           ابعد الخيــر عن أهل الكســــل
لا تــقل قد ذهبت أيامــــه           كل من سار على الدرب وصل
جمع الأستاذ الدكتور صبري الدمرداش في كتابه الرائع " قطوف من سير العلماء " سيرة 100 عالم .. مئة عالم كبير ترك أكثرهم وراءه الإنجازات والآثار الخالدة، ونال الكثير منهم الجوائز والألقاب العلمية وألقاب التبجيل والتقدير، وحصل العدد غير القليل منهم على جائزة نوبل – أهم الجوائز العلمية على الإطلاق - ، لقد أصبح بعضهم أكثر شهرة من الملوك والسلاطين، بل لقد تسابق الملوك والرؤساء في زمنهم على تقريبهم والاحتفاء بهم.. يا له من مجد ونجاح! لكن .. أسألك الآن عزيزي القارئ: هل تعرف الشيء الذي كان وراء نجاحهم ومجدهم؟ أنا قرأت الكتاب وسأجيبك.. قرأت الكتاب ولم أجد في صبا أكثرهم العبقرية والنبوغ، قرأت الكتاب ولم أجد الحظ والفرصة الذهبية، لم أجد الواسطة والنفوذ.. لكني قرأت الكتاب فجردت في طريقهم الحسد والمؤامرة، ووجدت الاستهزاء والسخرية، وجدت الحرق والطرد، وجدت القتل والسجن، قرأت الكتاب ووجدت إلى جانب ذلك في علمائنا المثابرة والتفاؤل، وجدت الإرادة وعدم اليأس، وجدت شيئاً ثميناً..
لن تصنعك عبقريتك..
بل تصنعك إعانة الله لك وتوفيقه ثم مثابرتك وعزمك
أحياناً وأظنها أحياناً قليلة، لا يرى ذلك المثابر حصاد مثابرته ونتيجة كفاحه الطويل، لكنك إذا لم تدرك نجاحك في حياتك، فتأكد إن كان عملك أصيلاً وذا قيمة، فسيأتي اليوم الذي يعترف العالم أو بعض العالم بفضلك ونجاحاتك.
فهذا ابن مالك- النحوي المشهور صاحب الألفية- كان يخرج وينادي بالناس: من يريد تعلم النحو؟ من يريد تعلم الفقه؟ فلا احد يجيبه، فيرفع نظره إلى السماء ويقول: اللهم هل بلغت، ثم يدخل داره.. لكن بعد أن مات، انكب الناس على علومه ومصنفاته.
وهذا الرسام العالمي فان كوخ Vincent Van Gogh  رسم أكثر من 800 لوحة، لكنه لم يبع منها في حياته ولا لوحة واحدة.. ربما باع لوحة واحدة فقط، رغم سعيه الحثيث والمستمر في تسويق لوحاته على وجهاء الناس. لكن بعد وفاته وبعد وفاته بكثير، ولأنه ترك لوحاته وبداخلها الجهد والوقت والكفاح، ففي 15 مايو 1990 بيعت لوحاته Portrait of Doctor Gachet  بيعت وفي أقل من ثلاث دقائق بـ 82.5 مليون دولار.. وهو أعلى سعر عرفته الأرض يُدفع للوحة.
من يرد الرضا والسعادة الحقيقية في حياته، فليتذكر دائماً وهو منغمس في جهاده وكفاحه من أجل النجاح، وإن لم يعترف الناس بفضلك وإنجازاتك في حياتك أو بعد مماتك، فلتتذكر دائماً أن الله لا يضيع عمل المحسنين.

قال الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه           لا يذهب العرف بين الله والناس
هذا وتذكر إن كان عملك خالصاً لوجهه الكريم، تريد به رفعة دين الله وعز المسلمين، أو حتى لو أردت به الخير لكل العالم على اختلاف أديانهم وألوانهم، تذكر أن الله جعل لأجر عملك النافع الاستمرار والبقاء، وأعطاك الله الكريم سبلاً لبقائه وخلوده، قال النبي صلي الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو"
جميل منك أن تحلم، ولكن ماذا ستعمل لحلمك من غدك؟ إذا لم تكن لديك إجابة فارقد مع أرقد مع أحلامك بسلام..
قد تكسر الحجارة والعصي عظامنا
لكن الكلمات تكسر قلوبنا
توماس أديسون
كانت ساحات بيوت الأغنياء تضاء بالمصابيح القوسية الساطعة، والتي يصحب تشغيلا حدوث ضجيج وانبعاث دخان غير ملائمين على الإطلاق للاستخدام في الحجرات الصغيرة.. لم يكن ثمن هذه المصابيح رخيصاً ليملكها الفقراء، بل كانت بيوتهم مظلمة متلونة بلون المساء، قد طووا كتبهم التي شغفوا بقراءتها منتظرين شمس فجر جديد، لكن ما أن تأتي هذه الشمس ليهرعوا إلى تلك الكتب حتى يصم آذانهم جرس العمل منادياً حيَّ على العمل.. حيَّ على العمل، فيتركون هذه الكتب في قبورها، مودعيها بقلبٍ عاشق وأنفاسٍ مشتاقة، فما أن ينتهي العمل وينتهوا من طعامهم إلا وقد ودعتهم الشمس بضيائها.. كم أذكر سعادة هؤلاء الناس بتلك الليالي المقمرة التي آنسهم القمر فيها بنوره، فأنار لهم شطراً من لياليهم وأنار لهم صفحات من تلك الكتب الغابرة.
هناك وفي مساء حاك على تلك الربوة المرتفعة، وقف أديسون يراقب المدينة المظلمة وهو يحلم باختراع يضيئها، مصباح ذو ضوء معتدل وهادئ وآمن، ليكون للكبير والصغير، رخيص الثمن للغني والفقير، كان هذا حُلماً يتردد على أديسون كل مساء.. حُلماً يشغله عن صفاء ليلته وهدوئها.. حُلماً ينام معه على وسادته.
و في ذات يوم دخل أديسون على صديقيه ( فارمر) و ( والاس ) فوجدهما يشعلان مصباح القوس الكهربي، قال فارمر: لقد جئت في الوقت المناسب يا أديسون.. هيا اشترك معنا في الحديث عن هذه المشكلة، مشكلة أضواء القوس الكهربي.. قال والاس: إن أضواء القوس الكهربي كما تراها لامعة براقة أكثر مما ينبغي أن تكون.. ومثل هذه الأضواء المتوهجة لا تصلح إلا في إضاءة الميادين والفنارات.. لكنها لا تصلح لإضاءة المنازل على الإطلاق. فابتسم أديسون قائلاً: هل فكرتما في الإضاءة باستعمال السلك الحراري؟ فصاح صديقاه في صوت واحد: هذا مستحيل. فرد أديسون: لقد أستطاع سيروليم جروث أن يجعل السلك يشتعل. فصاح فارمر قائلا: لقد وضع سلكاً أمام طرفي بطارية فلمع برهة ثم تفتت.. أهذا هو السلك الذي تنشده يا أديسون؟ إنه لا يصلح للإضاءة التي نبغيها.
فابتسم أديسون وقال: سأصنع لكما من هذا السلك الحراري مصباحاً يصلح لإضاءة المنازل والمكاتب.. فأعلن أديسون أمنيته وانبرى له صديقاه يؤكدان له أنه لن يستطيع أن يصل إلى المصباح العادي من هذا الطريق.. واحتدم النقاش والجدل بينهم، وانتقل ميدان الجدل إلى الصحف.. وقامت في وجه أديسون حملات نقد كبيرة، ولا سيما من أصحاب شركات الغاز الذين رأوا أن اختراع أديسون الذي يتحدث عنه سوف يؤدي إلى كساد أسهم شركاتهم وتوقف مصانعهم، لأن هذا يعني أن الناس سيستغنون عن الغاز الذي يستعملونه في الإضاءة ويستبدلونه بمصباح أديسون الكهربائي.. لا بد من قذف أديسون بكل أنواع التهم حتى لا يجد من يمول مشروعه هذا، مما يضطره إلى صرف النظر عنه بالكلية وتحطيم آماله وأحلامه، فاتُّهِمَ أديسون بالجهل والجنون واتُّهِمَ بأنه يحلق في عالم الأحلام، ووصفوه بأنه يُلقي القول جزافاً دون حكمة أ, رَويِّة، حتى أصدقائه رفضوا مشاركته الأمل في النجاح.
وبدلاً من أن يرد أديسون على مثل هذه الحملات، راح يواصل العمل ليلاً ونهاراً، ويقول لمساعديه: إن أكبر مشكلة أمامنا هي العثور على سلك حراري يشتعل ويتوهج من غير أن يحترق ويتفتت.
على هذا الأساس جرب أديسون وأعوانه كل المعادن واحداً بعد واحد، وعماله لا يفارقون عملهم، يأكلون على مناضدهم، ومن خلفهم أديسون يشجعهم ويشد أزرهم.. كانت الأسلاك التي يستخدمونها تحترق وتذوب وتتلاشى حتى دبَّ اليأس في قلوب مساعديه والعاملين معه، وزاد الطين بلة أن أقبل الممولون للمشروع يهددونه بعدم الإنفاق على هذا المشروع.. ووجد أديسون أن كل من حوله قد فقد الأمل في تحقيق هذا الحلم الجميل.. ومع ذلك ظل أديسون مصمماً على أن يعثر على سلك لا يحترق ولا يتفتت ولا يتلاشى مع درجات الحرارة العالية.
وفي أثناء ذلك العمل الدؤوب من أديسون ومعاونيه، كان أديسون يبحث عن الممولين لمشروعه، لأن مشروعه هذا يحتاج إلى مال كثير لا ينقطع حتى يحقق أديسون حلمه أو أن يعلن فشله وفشل تجاربه. كان أديسون مؤمناً بنجاحه في يوم من الأيام ولكنه لم يجد من التجار من يشاركه هذا الإيمان، لقد خذله أكثر الناس، فالتمس أديسون المال الضروري للاختراع من أحد أصحاب البنوك في نيويورك المستر مورجان، وأكد أديسون لمورجان أن باستطاعته استكمال اختراع المصباح الكهربائي في ستة أسابيع، فعمد مدير البنك عام 1878 إلى تأسيس شركة خاصة لتمويل أديسون، وطُرحت أسهم تلك الشركة في الأسواق وكان عددها 300 سهم، ولكنها مُنِيَت بالكساد، ولم يُبع منها سهم واحد، عندئذ لجأ أديسون إلى الحيلة، فأكد في تصريحاته الصحفية أنه استكمل وأنجز اختراع المصباح الكهربائي، ولم تمض أيام قليلة على تلك التصريحات حتى بيعت أسهم الشركة الجديدة كلها، ووضع مبلغ 50 ألف دولار في متناول المخترع أديسون.
ظل أديسون يجرب ويجرب بعزيمة لا تعرف الكلل أ, الملل، لم يبرح أديسون معمله أسبوعيين كاملين رغم قرب بيته من المعمل، لقد كان يتناول طعامه من النافذة، وكان يأكله واقفاً كعادته، طار نومه أياماً أربعة بلياليها، لقد أصبح بين خيارات الموت أو النجاح.. لقد انتهى به المطاف إلى إدخال فتيل من الكربون في كرة زجاجية مفرغة من الهواء.. وعند هذه اللحظة يكون أديسون قد أنفق أكثر من 100 ألف دولار – وهو مبلغ ضخم في أيامه – في صناعة المصباح الكهربائي.
في اليوم الموعود اجتمع أديسون ومساعدوه وعماله ليشاهدوا ما أسفرت عنه جهودهم الأخيرة.. وأدير التيار الكهربائي ، فتوهج فتيل الكربون وتعلقت أنظار الجميع بهذا المصباح في خوف وقلق من أن ينطفئ بعد هذا التوهج.. ومضت ساعة وساعتان والمصباح في توهجه واشتعاله، وانقسم الحاضرون إلى فئتين: فئة تتوقع استمرار هذا التوهج والاشتعال، وفئة أخرى تتوقع أن ينطفئ هذا الضوء، ولكن المصباح ظل متوهجاً مشتعلاً حتى المصباح.. مضت عشرون ساعة.. وثلاثون ساعة.. والكل يترقب هذا المصباح المضيء المشتعل.
وبعد انقضاء 36 ساعة.. حدثت اهتزازت صغيرة ثم إظلام. وعندئذ نهض أديسون واقفاً وهو يتمتم ويقول: الآن أستطيع أن أستريح قليلاً.. وعاد أديسون يبحث عن فتيل أفضل، حتى استطاع أن يجعل مصباحه يظل متوهجاً مشتعلاً أكثر من 100 ساعة متصلة.
لقد قدم أديسون مصابيحه الكهربائية للعالم بإضاءة معامله الخاصة في ( منلوبارك) بخمسمئة مصباح عام 1880، فكان ذلك حدثاً عظيماً، وهرع الزوار من غسق الليل لمشاهدة معامله التي فتحت أبوابها لهذا الغرض، وأخذوا يتأملون مصابيحه المتوهجة بإعجاب لا حد له، وسُيِّرت قطارات إضافية من نيويورك، كما عبر المهندسون المحيط الأطلنطي من أوروبا لمشاهدة تلك الأعجوبة الجديدة، فسمي أديسون بساحر منلوبارك.
وفي هذه الأثناء استغل أديسون أمواله وشهرته في تشييد محطة ضخمة في وسط نيويورك، واشترى موقعاً يطل على شارع بيرل وانتقل إليه مع جماعة صغيرة م الفنيين، وبنى ستة مولدات كبيرة للتيار المستمر مجموع طاقتها يساوي 900 حصان تُدار بواسطة المحركات البخارية، وحفرت أميال عديدة في الشوارع والطرقات لمد الكابلات الكهربائية التي صممت وصنعت كذلك بواسطة أديسون، ورُكبت الأسلاك الكهربائية في خمسة وثمانين مبنى لإضاءتها، وشاهد أهل نيويورك في يوم 4 سبتمبر 1882 بداية عصر الكهرباء عندما بدأ 2323 مصباحاً في التوهج بمجرد تحركي مفتاح توصيل في محطة قوى شارع بيرل.
وبحلول عام 1885 كان هناك ربع مليون من المصابيح تستخدم في الولايات المتحدة.
What ever you do, Don't look Back
كيف أصبح أديسون عظيماً؟
إن كل من يعرف شيئاً من أحداث طفولة أديسون لا يسعه إلا أن يحترم هذا الرجل، ويُجِّلَّ فيه صبره وإصراره ومثابرته، ولو لم تكن لأديسون إلا تلك الأحداث الطفولية القاسية لكانت كافية ف بتصنيفه من العظماء البارزين.. وكي لا تقل عزيزي القارئ: إنني قد هوَّلت من شأنه.. فإليك شيئاً من هذه الأحداث من حياته وأقواله.
ولد عام 1847 في مدينة ميلانو بولاية أوهايو الأمريكية، عاش أديسون السنوات السبع الأولى من حياته دون أخ يلعب معه أو رفيق يشاركه اللعب، لقد تزوجت أخته وترك أخوه الأكبر البيت للعمل، لذا لم يجد من يلقاه في البيت غير أمه وخالته التي كانت تزوره بين وقت وآخر.. كان أديسون الطفل دائم الأسئلة، يسأل عن كل شيء يراه: ما اسمه؟ وما فائدته؟ لماذا يحدث كذا؟ وأين ومتى يحدث؟ كانت له أسئلة كثيرة لا تنقطع، وإذا لم تَكْفِه الإجابة يعود إلى السؤال مرة أخرى، وكانت أمه تحوطه برعايتها وحنانها، وتجيبه بابتسامة عن أسئلته واستفساراته، كان لا ينتهي الأمر عند السؤال، بل كان يحاول أن يختبر بنفسه صحة ما يقرأ أو يقال له، وكان يراقب كل شيء، فقويت عنده قوة الملاحظة.
انتقل أهله به وهو في السابعة من عمره إلى بلدة هورون في ميتشيغان.. وهناك ألحقوه بإحدى المدارس وفق ما سمحت به مواردهم المتواضعة، ولكن أديسون لم يلبث في تلك المدرسة سوى ثلاثة شهور.. فقط ثلاثة شهور.. كان ينسى كل ما يتعلمه.. ولذلك كان دائما يأتي في مؤخر زملائه من حيث الدرجة.. لذا فإن مدرسيه قد يئسوا منه، وصرَّحوا بأنه خفيف العقل.. أبله.. لا فائدة من تعليمه.. كثيراً ما كان يعود أديسون إلى أمه والدموع تنهمر من عينيه الصغيرتين.. إن المدرس قال له أمام التلاميذ: ( إنك صبي غبي لا فائدة منك)، بل حتى الأطباء تكهنوا بأنه مصاب بمس نظراً لشكل رأسه الغريب. فما أن أتمَّ في المدرسة ثلاثة شهور حتى طرده ناظر المدرسة بحجة أنه كان متخلفاً، وإن مدرسته لم تؤسس للمعوقين.
طفل فقير عمره سبع سنين يمتلئ حساسية وبراءة وجمالاً يسمع من معلميه هذه الكلمات القاسية كلها .. أبله، غبي، لا ينفع، معوق.. كلمات تنطلق كالرصاص القاتل للفتى أديسون، يسأل أديسون نفسه فيقول: أليس هؤلاء هم المربون؟! أليس هؤلاء هم المعلمون؟! أليس هؤلاء هم القدوات؟! إذن أنا كما يقولون.. إنهم أعرف بحالي مني.. إذن أما.. وفي تلك الأثناء من الحيرة والتيه.. امتدت إليه تلك اليد الرحيمة الدافئة، تلك اليد المعلمة.. إنها يد أمه.. التي شعرت بحزنه وأخذت تنفي كل ما قاله مدرسوه، وأخذت تعيد إليه الثقة بنفسه، أفهمته أنه صبي ممتاز وأنه سيتعلم بسرعة.. قررت الأم أن تقف بجانب ولدها وتعلمه داخل، فمضت الأم في أداء رسالتها، تشجع فيه الميل إلى القراءة، كان يقرأ ما يراه كله.. كان يقرأ ليلاً ونهاراً.. ذات مرة أخذته أمه لتشتري له ملابس جديدة فأصر على أن يشتري بثمنها كتباً.. وكان أيضاً كثير الأسئلة، لا يكاد يصدق شيئاً حتى يجربه بنفسه إن استطاع إلى التجربة سبيلاً.. لقد تولت والدته تدريسه طيلة ثلاث سنوات، ورغم قصر المدة إلا أنها كانت كافية كما يقول أديسون : " لأن تغرس أمي في نفسي حب العلم وتفهمني غايته"..
وفي عيد ميلاده العاشر قدم إليه أبوه كتاباً في العلوم مما كان يستخدم في المدارس وقتئذ، وهو يحتوي على فصول شتى في العلوم الطبيعية، مع وصف المخترعات التي بهرت العقول في منتصف القرن التاسع عشر، كآلات البخار والقطارات وأجهزة التلغراف.. كان هذا الكتاب فتحاً جديداً في حياة أديسون، إذ ما لبث أن أقبل عليه يقرؤه في اهتمام بالغ، فقد أعجبته هذه المخترعات كما أعجبته الرسوم التوضيحية التي تفسر طريقة إجراء التجارب التي به.
وأخيراً وجد أديسون متعته الحقيقية، فالمطالعة وحدها لا تكفي لإرضاء فضوله، فاعتزم أن يجري بنفسه جميع التجارب التي جاء ذكرها ووصفها في هذا الكتاب.. فأخذ يفكر في تنفيذ رغبته في إقامة معمل صغير، وأفضى بسره إلى أمه، لكنها رفضت أن تسمح له بمثل هذه المحاولة الخطرة، ثم عادت وقَبِلَت بعد إلحاحه وإصراره، وسمحت له بحجرة أرضية خالية ليجري فيها تجاربه الكيميائية، ومضت أيام قبل أن تتحول هذه الحجرة إلى ما يشبه المعمل، كان بحاجة إلى رفوف صنعها بيده من أخشاب الصناديق، وبحاجة إلى منضدة صنعها من الأثاث القديم، وكان بحاجة إلى قوارير لحفظ المواد الكيميائية.. فانطلق يجمعها من مخلفات الدكاكين ومستودعات البناء ومخازن الأدوية، كما جمع فضلات من السلك والرصاص وقصاصات من ألواح الزنك والنحاس والصفيح، واشترى بما كان يدخره من مال بعض المواد الضرورية لإجراء تجاربه من صيدلية البلدة، ولما تمَّ له ذلك صفَ العشرات من الزجاجات النظيفة على الرفوف، وألصق على كل زجاجة منها بطاقة كُتب كلمة (سم) بخط واضح، حتى يمنع الناس من الاقتراب منها.
وبعد عام حل بالأسرة فقر لم يكن متوقعاً، وشعر أديسون بحاجته إلى العمل لأنه في حاجة إلى المال، وقال لأمه: سأحصل على عمل ثابت في الوقت الذي لا أقوم فيه بالقراءة. فقالت أمه: وأي عمل تريد؟ فقال: أريد أن أكون بائعاً للصحف في القطارات، إذ أستطيع أن أبيع الصحف فأكسب مالاً، كما أستطيع في الوقت نفسه أن أطالع كل ما فيها من غير مقابل، وفي أثناء وقت الفراغ من العمل في مدينة ديتروا أستطيع أن أقرأ الكتب كلها في المكتبة المجانية.. فكرت أمه أنه صغير السن، فعمره الآن اثنا عشر عاماً.. قد يتعرض لأخطار عدة في أثناء عمله في القطار.. قد يسقط من القطار.. قد يقع للقطار حادث.. قد يظل أديسون خارج البيت إلى وقت متأخر من الليل.. هكذا كانت تفكر أمه، أما أبوه فإنه صرَّح بأنه ليس هناك ضرورة لعمل أديسون.
لكن أديسون ناقش والديه في الأمر وحاورهما بأسلوب رقيق، وأنه نوى أن يشق طريقه في الحياة.. ووعد والديه أن يكون حريصاً للغاية على نفسه في أثناء العمل، فوافقا على مضض، فصار أديسون بائعاً للصحف والكتب والمجلات في القطارات والسكك الحديدية، ومن عمله هذا أخذ يصرف على معمله الصغير، وكان في أوقات فراغه يذهب إلى المكتبات العامة ليقرأ الكتب بالمجان.

وصادق أديسون حارس القطار، واستخدم عربته معملاً لتجاربه، وبعد فترة.. كسب مالاً اشترى به مطبعة صغيرة، وأنشأ صحيفة هو يحرر مقالاتها وأخبارها، وهو من يطبعها ويبيعها من غير أن يستعين بأحد في ذلك كله، وكانت تلك الصحيفة طريفة الأخبار، فلقيت نجاحاً باهراً وعادت على أديسون بالربح العظيم.. ولكن الحظ خانه.. فإذا القطار الذي اتخذ به معلمه يصدم في أثناء مسيره صدمة عنيفة، فتكسرت الأدوات وسقطت الأواني والزجاجات من فوق رفوفها، فتحطمت وسال ما فيها من مواد ملتهبة أتلفت ما في الحجرة من مطبعة ومتاع، ثم أطفئت النار بعد جهد وعناء، وما أن وصل القطار إلى المحطة التالية، حتى أُنزل أديسون مطروداً وقُذف متاعه وآلاته وراءه.
لكن أديسون لم يجزع لما أصابه وصمم على أن يعود إلى بيع الصحف في القطارات، ويتخذ من بيته الصغير معملاً جديداً.
وفي أثناء تواجد أديسون في محطة القطار ذات يوم.. كان ابن ناظر المحطة يلعب بين قضبان سكة الحديد.. إذ أقبل القطار في سرعة زائدة والطفل يلهو مكانه غير مهتم بشيء، فما كان من أديسون إلا أن ألقى بنفسه نحو هذا الطفل فانتزعه من بين القضبان بعد أن كان موته محققاً.. وأقبل والد الطفل يشكر أديسون على شهامته وشجاعته، ويقدم له بعض المال مكافأة على ما فعل، ولكن أديسون رفض هذا المال وقال: إن كان ولابد أن تقدم لي مكافأة على ما فعلت فأشرح لي جهاز البرق ( التلغراف) كيف يمكن العمل به ؟ ولم يمض وقت طويل حتى فهم رموز البرق وبرع العمل فيه، ثم اشتغل وهو في السادسة عشرة من عمره عاملاً ليلياً في أحد مكاتبه، وقد فتح هذا العمل أعين أديسون على الكهرباء التي أصبحت شغله الشاغل منذ ذلك الوقت.
واستطاع أديسون أن يدخل إصلاحاً كبيراً في الآلات البرقية، فبعد أن كانت الأسلاك لا تحمل أكثر من رسالة في وقت واحد، صارت تحمل عدة رسائل، فتعجب الناس من ذلك وأطلقوا عليه لقب الباحث الصغير.
وما هي إلا بضع سنوات حتى تجمع له عدد من الاختراعات، وبلغ ثمن هذه الاختراعات التي اشترتها منه شركة وسترون يونيون والتلغراف الأوتوماتيكي سبعين ألف دولار، وهو المبلغ الذي أنفقه على إنشاء مختبره الشهير في منلوبارك بولاية نيوجرسي.
وقدرت إحدى لجان الكونغرس ذات مرة قيمة اختراعات أديسون والتي بلغت حوالي 1093 اختراعاً بمبلغ 15 مليون ونصف المليون من الدولارات.. وقرر الكونغرس الأمريكي منحة الميدالية الذهبية التي صُنعت له وحده، ولا تمنح لأحد بعده أبداً.

والىن عزيزي القارئ.. هل لك أن تتصور حجم الإحباطات والمشكلات التي تلقّاها أديسون في حياته؟ وذلك من طفولته إلى أن كبر.. هذا المدرس يقول عنه غبي، وذلك يقول إنه أبله ولا يصلح لشيء، وهؤلاء يقولون أن فيه مساً من الجنون.. يطرد من عمله.. يجلس أياماً وأحياناً شهوراً وهو بلا وظيفة ولا مال، أصحابه يشككون في مقدرته، اتهموه بالجهل والجنون، عماله يئسوا من محاولاته.. ومع كل هذا الكم الهائل والمستمر من تلك الإحباطات ظل أديسون صابراً متفائلاً مثابراً في عمله،  مستثمراً تلك الرسائل السلبية التي سمعها كلها في تحدٍ لنفسه وشحذٍ لهمته، يذكر المؤرخون أنه أجرى أكثر من 10 آلاف تجربة في محاولاته لتطوير المصباح، كان ينظر بمنظار المتفائل الآمل ولا يعرف نظرة المتشائم اليائس.
سُئل أديسون في أواخر حياته: ما أسباب نجاحك؟ فقال: " القراءة الدائمة بلا انقطاع، والعمل الدائم بلا يأس" ، كان أديسون عندما يفشل في أثناء تجاربه للمصباح يقول: أصبحت الآن أعرف طريقة أخرى لا يمكن أن بعمل بها المصباح الكهربائي، وكان يقول كل خطوة فاشلة هي خطوة للنجاح.. وهذا يعني أن الأخطاء دليل العمل والسبيل إلى الإتقان.. إنَّ كوباً صغيراً من عصير الجزر يقابله دائماً كومة كبيره من أليافه.. أي أنك لن تصل إلى النجاح الذي تريده إلا بعد أن تكون قد أخطأت وأخطأت وأخطأت.. هذه ضريبة الإتقان وقاعدة النجاح، لا تخف من الفشل وكرر المحاولة، فمحاولة النهوض أفضل من أن تطأك الأقدام وأنت مستلق على الأرض.
لا أعرف ناجحاً يائساً، ولا ناجحاً متشائماً، الناجحون لا يستمعون إلى أصوات التقزيم والتحبيط، الناجحون لا يعرفون الاستسلام، هم أشد الناس معرفة بقدر ذواتهم وأكثرهم دأباً وأملاً وتفاؤلا، اجعل من أذنك غربالاً يعزل كل قول متشائم وصت مستهزئ، واجعلها معبراً لكل قول حسن وصت مشجع.
تذكر كلمة سيبلوس الموسيقار الفنلندي لأحد تلامذته.. وقف التلميذ يودع أستاذه الكبير وهو يَهِمُّ بالعودة إلى بلاده، بعد أن أتَّم دراسته الموسيقية عنده، وأخذ يشكو له ما يخشاه من الظلم من نقد النقاد في بلده، فقال له سيبلوس مهوناً الخطب عليه: لا تدع هذا يقلقك.. واذكر أن أمةً من الأمم حتى الآن لم تُقِم تمثالاً لناقد.
شر الورى بعيوب الناس مشتغلُ             مثل الذباب يراعي موطن العللِ
تذكر أنك إذا أفرطت في التركيز على ما تخاف حدوثه، فسوف ينتهي بك الأمر إلى أن تقع فيما تخاف منه. ولذلك فإن قائد سيارة السباق المحترف يعلم القاعدة التي تقول إننا نوجه عجلة القيادة في الاتجاه الذي نركز عليه تفكيرنا، ولذلك فهو يحول تركيز انتباهه عن الحائط وينظر بدلاً من ذلك إلى الطريق الخالي أمامه حتى يمكنه المحافظة على حياته.
إن من سُنن النجاح أن تجتهد وتثابر في عملك ولا تهتم بقول المثبِّطين الذين ارتضوا من دنياهم بزاوية من مجالسهم التي لا تنتهي، آخذين بشتم هذا وتجريح ذاك ولمز أولئك، حتى إذا جاء المساء وأغلق صاحب المجلس مجلسه، كان قد فاز العاملون بالعمل ورجع الناعقون بالإثم والفشل.
عداتي لهم فضل عليَّ ومنـــة          فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا
هم كشفوا عني زلتي فاجتنبتها       وهم نافسوني فارتقيت الأعاليا
وعلى هذه السنن سار عبد الله بن عباس منذ طفولته غير مبالٍ بتثبيط من هو أقصر منه همة وعزيمة، قال رضي الله عنه: لما قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هَلُمَّ فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير، فقال الأنصاري: واعجباً لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك، وفي الناس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم؟ قال: فتركت ذلك – أي لم استمع لقوله ولم أصدقه- وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل – وقت القيلولة ظهراً – فأتوسد ردائي على بابه، يسفي الريح عليَّ من التراب، فيخرج فيراني، فيقول: يا بن عم الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ هلا أرسلت إلىَّ فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث. فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني، فقال: هذا الفتى كان أعقل مني.
واعلم بأن العلم ليس يناله         من همه في مطعم أو ملبس
فاجعل لنفسك منه حظاً وافراً      واهجر له طيب الرقاد وعبس
فلعل يوماً إن حضرت بمجلس     كنت الرئيس وفخر ذاك المجلس
إن بعض الناجحين قد استثمر قول الناقدين واستخفاف السفهاء به في تحدي نفسه والإصرار لتحقيق ما يصبو إليه، وإليك هذه القصة المثيرة تشرح ما أقول:
نحن الآن في شهر فبراير عام 1991 والدكتور رشيد العميري – وزير النفط الكويتي – يتباحث مع كبرى شركات العالم المتخصصة في إطفاء الآبار من اجل إطفاء آبار النفط التي أشعلها النظام العراقي في أثناء غزوه للكويت.. كارثة بيئية عظيمة جداً، أودت بحياة ملايين الكائنات البرية، وهي خطر محدق على سكان دولة الكويت، هذا الخطر لابد من احتوائه بأسرع وقت ممكن. لقد تفاوض الوزير مع 4 شركات عالمية!! ولعلك تتسائل لماذا لم يتفاوض مع خامسة وسادسة وسابعة ؟! إن الجواب سهل للغاية.. إنه لا يوجد في العالم كله إلا هذه الشركات الأربع التي تخصصت في إطفاء الآبار.
الوزير يسأل: كم تحتاجون من الوقت لإطفاء هذه الآبار؟ شركة تقول 5 سنوات، أخرى تقول 4 سنوات، وأخرى تقول 3 سنوات، وشركة أخرى واعدة واثقة تقول فقط في سنتين، وكانت هذه أقصر مدة سمعها الوزير من تلك الشركات المتخصصة التي مضى على تأسيسها عشرات السنين من العمل الناجح والخبرة الطويلة.

هذا يعني يا سادة.. سنتان وآبار النفط مشتعلة، سنتان من ملايين براميل النفط ومثلها من الأموال تهدر، سنتان وبلايين الكائنات الحية في الخليج قد نفقت، سنتان وسماء الكويت ملبدة بأبخرة النفط السامة، سنتان وآلاف الناس تعاني أمراضاً خبيثة في أجهزتها التنفسية.
لقد أدرك الدكتور رشيد العميري فداحة الكارثة وأنه سباق مصيري مع الزمن، فراح يساوم تلك الشركات على تقصير مدة إطفاء الآبار عن السنتين، حاولوا أن تجعلوها أقل من ذلك، راجعوا دراساتكم وإمكاناتكم لعل الأمور تتغير.. لكنه – رغم محاولاته الجادة معهم- لم يسمع منهم مدة قلت عن السنتين.
إذن لا بد من إتخاذ قرار سريع بشأن هذا الأمر، إن الأمر يزداد سوءاً ونحن نضيع الوقت بالمساومات والاجتماعات والمشاورات.. ماذا سيفعل الوزير الحائر؟!
لقد باشر الوزير وأفراد فريقه العمل واستطاعوا إطفاء أول بئر لهم في 20/3/1991، لقد كان فريق سعادة الوزير يتألف من 10 آلاف شخص، 10 آلاف قلب مستميت لإنهاء هذه الكارثة.. ثم يستمر العمل بهذه الروح الجادة حتى كان اليوم المشهود في يوم 13/4/1991.. الذي صرح فيه وزير النفط الكويتي الدكتور رشيد العميري أنه سيحتاج فقط إلى سبعة أشهر لإطفاء جميع الآبار، وأنه وبتوفيق الله ونصره سينجح بتنفيذ ذلك، فماذا حدث بعد ذلك التصريح؟
لقد سمع الوزير مئات التهكمات والجمل الساخرة وخاصة من مسئولي تلك الشركات، أنت لا تعرف عما تتكلم، أنتم عاطفيون متحمسون لا تفكرون بعقولكم، نحن أصحاب الخبرة، أمضينا في هذا العمل عشرات السنين، ونحن فقط من لديه الكوادر المدربة والآليات المتخصصة.
دكتور رشيد ما حجم معلوماتك عن كيفية إطفاء الحرائق؟ إنك ستظل بفريقك المتواضع تكافح هذه النار عشر سنين ولن تنطفئ.
المستر رد أدير – صاحب شركة أدير لإطفاء الآبار – وهي من أكبر الشركات الأربع التي ذكرناها، والتي جاء في تقريرها للوزير أنها قادرة على إطفاء الآبار في مدة لا تتجاوز الخمس سنوات، يعلن المستر أدير تهكمه واستخفافه أمام الكونغرس الأمريكي بتصريح الوزير الكويتي.. سبعة أشهر يا لهم من حالمين.. وكل ذلك التحبيط والاستخفاف والسخرية والوزير وفريقه ملتزمون في تصريحهم، ماضون في عملهم، شَغَلَهُم العمل الجاد والرؤية الواضحة عن الرد على ذاك أو على هذا.. وبعد 6 أشهر و 21 يوماً انطفأ آخر بئر مشتعل، وينجح الوزير الكويتي وفريقه الباسل بتخريس جميع الألسن المتهكمة والخبرات المغرورة.

مهم جداً أن تثق بنفسك، وتؤمن بقدراتك
ولـــــــو قـــال الناس عنك وقـــالــــــــوا
وإليك قصة أخرى حدثت في الشام في القرن الماضي..
نشأ محمد إسماعيل الخياط عامياً، ولكنه محب للعلم، محب للعلماء، فكان يحضر مجالسهم ويجلس في حلقاتهم للتبرك والسماع، وكان يواظب على الدرس، لا يفوته الجلوس في الصف الأول، وكان الشيخ يلطف به لما يرى من تبكيره ودوامه، ويسأل عنه إذا غاب، فشد ذلك من عزمه، فاشترى الكتب يُحيى ليله في مطالعة الدرس، ويستعين على ذلك بالنابهين من الطلبة، واستمر على ذلك دهراً حتى أتقن العلوم، وصار واحدَ زمانه في الفقه والأصول، كل ذلك وهو لا يزال في مهنته في خياطة الملابس.. وصار الناس يأتونه في محلِّه يسألون عن مشكلات المسائل وأعقدها، فيجيبهم بما يعجز عنه كبار علماء عصره، فانكب الناس عليه من كل جهة، وترك الناس المفتي من آل ألعمادي لا يسألونه، فساء ذلك العماديين وآلمهم وتربصوا للشيخ وأضمروا له الشر، ولكنهم لم يجدوا إليه سبيلاً، فقد كان يحيا من عمله ويحيا الناس من علمه.
كان يمر بحماره كل يوم بدار العماديين فيسلم ويردون عليه السلام، فمر يوماً كما كان يمر، فوجد على الباب أخاً للمفتي، فرد عليه السلام، وقال له ساخراً: " إلى أين يا شيخ؟ أذاهب إلى اسطنبول لتأتي بولاية الإفتاء؟" وضَحِكَ و ضَحَكَ من حوله، أما الشيخ فلم يزد على أن قال: إن شاء الله ، وسار في طريقه حتى إذا ابتعد عنه ودخل داره، ودَّع أهله وأعطاهم نفقتهم وسافر.
ومازال يفارق بلداً ويستقبل بلداً حتى دخل القسطنطينية فنزل في فندق قريب من دار المشيخة التي ينتمي إليها كبار العلماء، فكان الشيخ محمد إسماعيل يجلس على باب الفندق في الخارج يطالع في كتاب أو يكتب في صحيفة، فيعرف الناس من زيه أنه عربي فيحترمونه ويجلُّونه لأنه من أمة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي اهتدوا بسنته، فصار للشيخ محمد بعض العلاقات مع بعضهم، يأتونه يجلسون إليه ويحدثونه، فقال رجل منهم يوماً: إن السلطان سأل دار المشيخة عن قضية حيرت علماءها، ولم يجدوا لها جواباً، والسلطان يستحثهم وهم حائرون، فهل لك أن تراها لعل الله يفتح عليك بالجواب؟ قال: نعم. قال الرجل للشيخ: إذاً سر معي إلى دار المشيخة. قال : باسم الله.
ودخلا على سكرتير دار المشيخة، فسأله الشيخ محمد عن المسألة المحيرة، فرفع السكرتير رأسه وأخذ ينظر إلى الشيخ باحتقار واستهزاء، وألقاها إلى الشيخ محمد، وانصرف السكرتير إلى عمله محركاً رأسه مستهزأً بالذي دخل عليه.. فأخرج الشيخ نظارته فوضعها على عينه فقرأ المسألة ثم أخرج قلمه فجلس يكتب الكتاب بخط نسخ جميل، حتى كتب عشر صفحات ما رجع في كلمة منها إلى كتاب، فما أن فرغ حتى دفع جوابه إلى السكرتير، وأخبره بعنوان سكنه وذهب، فلما حمل السكرتير جواب الشيخ محمد إسماعيل إلى رئيس دار المشيخة، والذي يُدعى بشيخ الإسلام ورأى الجواب حتى كاد يموت دهشة وسروراً.وقال للسكرتير: ويحك من كتب هذاالجواب؟! قال: شيخ من أهل الشام، من صفته كذا وكذا وكذا. قال: عليَّ به.
فدعوه وجعلوا يعلمونه كيف يسلم على شيخ الإسلام، وأن عليه أن يشير بالتحية واضعاً يده على صدره منحنياً، ثم يمشي متباطئاً حتى يقوم بين يديه.. إلى غير ذلك من الأعمال الطويلة التي نسيها الشيخ ولم يحفظ منها شيئاً.. ودخل على شيخ الإسلام، فقال له: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وذهب وجلس في أقرب المجالس عليه، وعجب الحاضرون من عمله، ولكن شيخ الإسلام سُرَّ بهذه التحية الإسلامية، وأقبل عليه يسأله حتى قال له: سلني حاجتك. قال: إفتاء الشام. قال: هو لك، فتعال إليَّ غداً.. فلما كان من الغد ذهب إليه فأعطاه كتاب التولية، وكيساً فيه ألف دينار.
وعاد الشيخ إلى دمشق، فركب حماره ودار حتى مر بدار العماديين، فإذا بصاحبنا المستهزئ على الباب، فسخر منه كما يسخر منه دائماً، وقال: من أين يا شيخ؟ فقال الشيخ: من هناك، من اسطنبول، أتيت بتولية الإفتاء كما أمرتني.. ثم ذهب إلى القصر وقابل والي الشام بكتاب شيخ الإسلام الذي ينص: بتولي الشيخ محمد إسماعيل إفتاء الشام.
فما أن قرأه الوالي، حتى سلَّم الشيخ عمله في حفلة كبيرة.
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه          فالناسُ أعداءٌ له وخصومُ
كضرائر الحسناء قلْنَ لوجهِها           حسداً ومقتاً إنه لــذمــيـــم
وهذا شخص آخر جعل استهزاء الآخرين استثماراً لإشعال طاقاته وتحدياً لنفسه وقدراته:
كان الشيخ خالد الأزهري يعمل في الجامع الأزهر، وكانت مهنته في هذا الجامع أن يُشعل السُرُج، وفي مساء أحد الأيام وهو يمشي في الجامع الأزهر وبيده الزيت – وهو وقود السرج آنذاك- تعثر في جسد رجل مستلقٍ في المسجد، فانسكب الزيت على الرجل، فقال للشيخ خالد غاضباً ومستهزئاً: يا شيخ الأزهر. فأسرها الشيخ في نفسه، وقال والله ليكون.. وما هي إلا سنين إلا والشيخ خالد قد صار شيخاً للأزهر.
يقول الدكتور الطبيب عبد الرحمن السميط حفظه الله: أول ما تخرجت من الثانوية، كنت متحيراً بين دراسة الطب في أمريكا أو دراسته في القاهرة فذهبت إلى مكتب البعثات ولم أكن قد اهتديت إلى قرار بعد، أمريكا أم القاهرة، وفي هذه الأثناء من الحيرة.. سمعت الطلبة في مكتب البعثات يقولون أن دراسة الطب في جامعة بغداد صعبة جداً – ولم تكن جامعة بغداد على بالي أبداً – لكني أحببت هذا التحدي وقررت دخولها ودراسة الطب فيها، لقد حاول مسئول مكتب البعثات الأستاذ عبد الله المفرج جاهداً أن أتراجع عن قراري هذا، لكني قد اتخذت قراري وقبلت التحدي، وبعد سنة من الدراسة في هذه الجامعة كنت قد رسبت في المواد جميعها، فقررت أن أعيد الكرة من جديد ، فنجحت وتخرجت منها.
ماركوني مخترع الراديو يُعلن أنه اكتشف وسيلة تمكنه من إرسال رسائل عبر الهواء من دون أسلاك أو أي وسائل اتصالات مادية، وما هي إلا سويعات حتى جاء أصدقاء ماركوني وحجزوه للفحص في مستشفى الأمراض العقلية.. لكن ماركوني كان مؤمناً بنفسه وقدراته، ولا يعبأ بظن الناس به.. ففي عام 1896 اخترع الراديو، وفي عام 1901 اخترع اللاسلكي، وفي عام 1910 استطاع أن يبعث برسائل لاسلكية بين ايرلندا الأرجنتين – أي عبر 10000 كم – كل هذا من عمل ماركوني، وهو الرجل نفسه الذي اتهموه بالجنون !!
عندما حاول الأخوان رايت - مخترعا الطائرة – تخيل إمكانية اختراع آلة تطير، ظن الناس أنهما مجنونان، وعندما كتب بعض المغامرين أول مرة عن إمكانية رحلة إلى القمر، قال الناس عنهم أيضاً إنهم مجانين.
والت ديزني.. كان محررا لأحد الجرائد، وما هي إلا أيام حتى وجد نفسه مطروداً من العمل، وذلك بسبب ضعف الأفكار التي يقدمها – هذا ما كتبه عنه رئيس التحرير بتفسير سبب الطرد – أفلس 5 مرات قبل بناء ديزني لاند .. ورُفِض طلب حصوله على التمويل اللازم لبناء مدينته 302 مرة – لأن جميع البنوك اعتقدت أنه مجنون – ثم تم له مشروعه الذي درَّ عليه مليارات الدولارات ، وزاره ملاين الناس، فهل ما زلت تراه يا رئيس التحرير ضعيف الأفكار؟!
ألبرت انشتاين لم يبدأ الكلام حتى سن الرابعة، ولم يبدأ تعلم القراءة إلا في ن السابعة، جاء والده مرة إلى ناظر المدرسة يسأله المشورة بخصوص العمل المستقبلي الذي يجب أن يوجه ابنه له ، فقال الناظر: لا تهتم فلن يفلح هذا الغلام في شيء.. ثم طُرد من المدرسة بعد أن وصفه أساتذته أنه من بطيئي التعلم.
ولما كان عمره 18 عاماً رسب في اختبار القبول لكلية الهندسة، لأنه لم يظهر أي موهبة – كما قال الممتحنون له – أكمل تعليمه في سويسرا بدراسة استمرت أربع سنوات في الفيزياء والرياضيات، ثم حاول أن يجد عملاً في التدريس، ولكنه لم يجد من يوظفه، ولذلك عمل موظفاً في مكتب براءة الاختراع السويسري، وفي أثناء عمله هذا حصل على الدكتوراه من جامعة زيورخ.
وتمضي الأيام وينشر أنشتاين عشرة بحوث علمية كاملة، ولم يكن قد تجاوز السادسة والعشرين، ويحصل على أعلى جائزة علمية.. لقد حصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1921، وذلك بعد تفسيره لنتائج تجارب التأثير الكهروضوئي، وفي عام 1952 تُعرض عليه رئاسة إسرائيل بعد وفاة رئيسها السابق وايزمان.. أَوَلا زلتم ترون أنشتاين أيها المعلمون أنه من بطيئي التعلم، أم أنكم أنتم من يجب أن يوصف بهذه التهمة؟
لقد عانت كاتبة القصص البوليسية المشهورة أجاثا كريستي Agatha Christie  مشكلات في فهمها لقواعد اللغة، وكانت تعاني في صغرها صعوبة في تهجئة الحروف، لكنها وبكلمات التشجيع من أسرتها تجاوزت محنتها تلك، وطُبع لها أكثر من 500 مليون نسخة من قصصها البوليسية والمنشورة حول العالم.
الممثل الفكاهي جيم كاري والفكاهي بيل كوسبي، والرياضي مايكل جوردن ومخرج فيلم " الحديقة الجوراسية"  الأمريكي ستيفن سبيلبيرغ، رغم معاناتهم من اضطراب عجز الانتباه المصحوب بالنشاط الحركي المفرط ( ADHD) إلا أن الصبر على توجيه الطاقة الزائدة لديهم، والصبر على صقل وتدريب مواهبهم، جعلهم نجوماً في بلادهم، كما أن التشجيع والصبر على عسر القراءة ( الديسلكسيا ) عند الطفل توم كروز جعل منه أيضاً ممثلاً عالمياً.
الرسام العالمي الشهير بيكاسو Pablo Picsso بالكاد استطاع أن يكتب ويقرأ عندما وصل إلى سن 10 سنوات، وعندما أجر له أبوه مدرساً خاصاً ليساعده، استسلم هذا المدرس وانسحب من تدريسه
العالِم الرياضي والفيزيائي الإنجليزي إسحاق نيوتن Newton كان كأحد أولئك الذين لم يظهروا تحصيلاً متميزاً في طفولتهم المبكرة، ولقد أخرجته أمه من المدرسة بعد أن شكا معلموه قلة اهتمامه بما يقولون، وتوقعت له أمه أن يكون ملاحاً أو نجاراً لما أظهره من براعة فائقة في استخدام يديه.
عالم الرياضيات والصواريخ الأمريكي الشهير نوربرت وينر Norbert Winer كان قد أخفق في اجتياز مقررات الرياضيات والفيزياء في المدرسة الثانوية.
والآن.. هل أثقلت عليكم بكثرة الأمثلة عن هؤلاء الناجحين من الذين وُصِمُوا صغاراً بالمعاقين أو بالأغبياء؟ اعتقد أنني فعلت، فعلت ذلك فقط لتعلموا كم أنشتاين قد فقدناه ودمرناه في صفوفنا؟ كم شافعياً وكم متنبياً وخوارزمياً ومخترعاً أهملناه؟.. لقد دمرنا أبناءنا مبكراً بكلماتنا وتصنيفاتنا.. حكمنا عليهم عند أول سقطة.. وبدون أي فرصة ثانية.
بشاشتنا وتفاؤلنا – نحن الآباء – جعلناها فقط للمتميزين في درجاتهم العلمية، أو للذين دخلوا كليات الطب والهندسة، وأشرطنا الحب بالدرجات.. فالذي يحقق الدرجات العالية هو من يفوز بمدحنا وابتسامتنا وتفاؤلنا.. لقد نسينا أنها قدرات ومواهب وأن كل إنسان ميسر لما خلق له. فقد لا يُقبَلُ أو لا يُفْلحُ ابني في الهندسة، لكنه قد ينجح في الإدارة، أ, قد ينجح في التجارة، هذا العم عبد العزيز الغنام لم يحصل على الشهادة الإبتدائية لكنه الآن يفطر كل يوم في رمضان أكثر من 1300 مسكيناً.. لقد أصبح تاجراً كبيراً، هذا العم سليمان الراجحي بالكاد يقرأ ويحسب - أمّي تقريباً – لكنه الآن مليارديراً، يحسب بثوانٍ معدودة الصفقات والمشاريع ذات الملايين إن كانت خاسرة أم رابحة.. يحسبها بثوان وقبل الخبراء الاقتصاديين أصحاب الشهادات.
إن نصيحتي أن تحبوا أبناءكم وطلابكم دون شروط، حاسبوهم فقط على ما بذلوه من جهد وليس على ما حققوه من درجات، أعطوهم فرصة وفرصة وفرصاً أخرى للنجاح، فميادين النجاح في هذه الدنيا كثيرة، تفاءلوا وادعوا لهم جميعاً، وكلما تعثروا أو فشلوا، علموهم بروح متفائلة مستبشرة أن الفشل تجربة نتعلم منها أخطاءنا ونتقن من خلالها مهاراتنا، دعوهم يختارون تخصصهم وأعمالهم، فهم أدرى منكم بمواهبم وقدراتهم وميولهم.. هي حياتهم وليست حياتكم.
عندما كان فريدريك سميث طالباً في جامعة ييل في نيوهافن بولاية كونيتيكت بالولايات المتحدة، أخذ بفكرة تسليم البريد في اليوم الذي يلي تسلمه، كانت فكرة رائعة في الستينات، حين كانت تسليمات" الأفضلية الأولى " تستغرق ثلاثة أيام.
تُجمع الرزم طوال النهار من المحلات التجارية بواسطة شاحنات تتجه في نهاية النهار إلى المطار، ومن هناك تنقل الرزم في الطائرة إلى محور أكبر في وسط أمريكا، حيث تُفرغ الطائرات جميعها حمولتها، ثم تُفرز الرزم ويُعاد تحميلها في الطائرات التي ستعود من حيث أتت. طوّر سميث الفكرة وقدمها إلى أستاذه في كلية التجارة الذي أعطاه علامة متوسطة، قائلاً لسميث: فكرتك جديرة بالاهتمام لكنها غير قابلة للتطبيق. كان سميث كلما قال له من حوله إن فكرته " سخيفة" زادت ثقته بصلاحيتها، كان واثقاً بأن الناس سيعتمدون عليها حين يعلمون أن بريدهم سيصل في الغد إلى وجهته المقررة.
عندما أنشأ الشركة وبعد أن مولها بكل سنت يمتلكه، كان ممكن أن يتوقف المشروع الناشئ عشية الافتتاح في 12/3/1973، حين وصلت الطائرات من أنحاء الولايات الشرقية إلى المحور الرئيس ومعها ست رزم فقط، كما كان ممكن أن تتوقف الشركة في نهاية إبريل 1973 عندما بلغت خسارته الإجمالية 4.4 ملايين دولار، كذلك كان يفترض أن تنهي أعمالها في سبتمبر 1973 عندما تخلفت عن تسديد ديون مستحقة بعدة ملايين من الدولارات، لقد بدأت الأمور تزداد سوءاً، قاضته أسرته، وفي أوقات كثيرة تعرضت طائرات الشركة لسحب ملكيتها، وأحياناً تضطر الشركة لخفض أسعارها من أجل الاستمرار، لكن عندما بلغ الدَيْن المستحق على الشركة 30 مليون دولار، عَمَدَ أعضاء مجلس الإدارة في الشركة إلى الإطاحة بسميث، وعينوا مكانه رئيساً آخر، غير أنَّ سميث دافع عن موقفه واستعاد رئاسة الشركة خلال سنة.
واليوم نرى شركة سميث " فيدرال اكسبرس" مؤسسة تجارية قوامها عدة مليارات من الدولارات ومحورها ممفيس بولاية تنيسي.. تملك أكثر من 396 طائرة، 29000 سيارة شحن وفان، 25000 موقع تسلُّم وتسليم، 297000 اتصال يومي في شبكة تربط وسائل النقل مع الزبائن والمراكز، تسليم وتوصيل آلاف الرسائل والطرود يومياً في 119 دولة.. عالم ديناميكي خيالي تمتد فيه الناقلات 60 كيلومتراً، ويعمل أربعة آلاف مستخدم في تسلم ما يزيد عن 700 رزمة وتوزيعها في أقل من ساعتين ونصف، وبسبب هذه الجودة العالية في الأداء أصبحت شركة فيدرال اكسبرس عام 1990 أول شركة خدمية تفوز بجائزة " مالكولم بالدر يدج" القيمة، وهي أسمى تقدير للجودة في الدولة.
لقد كان السبب الوحيد في استمرار هذه الشركة هو أن سميث كان قادراً بإصراره على مواجهة الفشل بعد الفشل.
وهذا إبراهام لنكولن الذي:
1-      فشل في عمله عام 1831 وعمره واحد وعشرون سنة.
2-      هُزم في الانتخابات التشريعية عام 1832.
3-      فشل مرة أخرى في عمله 1834.
4-      فشل في الانتخابات عام1838.
5-      فشل في انتخابات مجلس الشيوخ1843.
6-      فشل في انتخابات مجلس الشيوخ 1846.
7-      فشل في انتخابات مجلس الشيوخ 1847.
8-      فشل في انتخابات النواب 1855.
9-      فشل في أن يفوز بمنصب نائب الرئيس عام 1856 وعمره 47 سنة.
10-    فشل في انتخابات النواب عام 1858.
إلى متى يا إبراهام وأنت تفشل؟! أما تخجل من كل ذلك الفشل؟ دع المجال لغيرك، فشلت كثيراً ولن تنجح أبداً.. أنا متأكد تماماً أنَّ كل تلك العبارات والكلمات المؤذية قد سمعها لنكولن، فلماذا لم يسمع كلام كل أولئك المحبطين المثبطين وينسحب؟! أتراه سينجح يوماً ما؟! نعم سأنجح، نعم أولئك الناس كلهم مخطئون في توقعاتهم، أنَّ قانون الحياة هو قوة الاعتقاد، أنت كما ترى نفسك لا كما يراك الآخرون، أنا سأنجح يوماً ما. يقول إبراهام لينكولن" لن يكون هناك مستحيل طالما ملكت عزيمة ماضية" .
وأخيراً.. وفي عام 1860 وبعد كل هذه التجارب الفاشلة، وبعد أن بلغ الثانية والخمسين من عمره انتخب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية.
حقاً إنَّ العظماء سقطت من قواميسهم كلمة " فشل".
اسمه ماكس كليلاند الذي لَمَعَ في مدرسته الثانوية في ألعاب كرة السلة والمضرب والبيسبول والسباحة، وانتخِب كأبرز طالب متخرج. كان ماكس مديد القامة عريض المنكبين ويتوقع الناس له الناجح في شتى الميادين الحياة. إلا أنه أُخذ في سن الرابعة والعشرين إلى حرب فيتنام، وفي فيتنام وقبيل عودته إلى وطنه أُنزلت فرقته على هضبة بالقرب من مخيمهم، ولاحظ ماكس سقوط قنبلة فتحرك ليسحبها، إلا أنَّ الانفجار قذفه إلى الوراء، وعندما نظر إلى جسمه أدرك أنه فقد يده ورجله اليمنى، أما رجله اليسرى فكانت مشوهة على نحو رهيب، ولم يطل الوقت بها حتى بترت هي الأخرى. أجهش بالبكاء لكن صوتاً لم يخرج من حنجرته، فقد مزقتها الشظايا. لم يتوقع أحد أ، يبقى ماكس حياً، لكنه عاش يتذكر كلام أستاذه الذي قال له يوماً: " طوبى لراكبي الشدائد، فالشدة تصنع الصبر، والصبر يصنع المثابرة، والمثابرة تصنع الرجاء، والرجاء لا يخذل صاحبه". وبتذكره الدائم لهذه الكلمات استطاع ماكس الصمود للحفاظ على رجائه.
بعد عودته إلى الحياة المدنية دخل ماكس معترك السياسة، فشغل ولايتين في مجلس الشيوخ في جورجيا، ثم خاض حملة انتخابات لمنصب نائب الحاكم لكنه خسر، فكانت صدمة عنيفة، لكنه قوَّى عزيمته بعبارة للروائي والناقد البريطاني هكسلي" ليست التجربة ما يحدث للمرء، بل هي ما يفعله المرء بالذي يحدث له". تعلم ماكس قيادة سيارة خاصة وراح يطوف في أمريكا مندياً بدعم قدامى المحاربين، وفي العام 1977 وكان في الرابعة والثلاثين من العمر، عينه الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر رئيساً لإدارة قدامى المحاربين، فكان أصغر من شغلوا هذا المنصب، وفي عام 1980 عاد ماكس إلى مسقط رأسه، وفي عام 1982 انتخِب وزيراً للداخلية في ولاية جورجيا، وأعيد انتخابه عام 1986.
يُعد ماكس مصدر إلهام في أرجاء أتلانتا عاصمة جورجيا، وغالباً ما يُرى في أحد ملاعب كرة السلة يجول في مقعده النقال متحدياً الشباب في إصابة السلة، وقد سجل ذات مرة 18 هدفاً بيده اليسرى الوحيدة، وهو يقول : " لا تدور الحياة حول يَدٍ ورِجل، فالناس ينظرون إليك كما تنظر إلى نفسك" .
يدخل أستاذنا الدكتور بشير الرشيدي إلى الصف الثاني الإبتدائي، حيث كان مشرفاً آنذاك على أحد طلاب كلية التربية في برنامج التربية العلمية، فيقف الدكتور بشير بين التلاميذ ويسألهم قائلاً: أيكم كسلان؟ فرفع ثلاثة أيديهم، ثم سمع الدكتور تلميذاً  في ناحية الصف يقول: أستاذ هذا أيضاً معهم، إنَّه كسلان. فرفع الرابع يده على استحياء، فسأله الدكتور: هل أنت كسلان؟ قال : نعم.
وأتساءل الآن من عرَّف هؤلاء الأطفال الضحايا أبناء السبع سنين أنهم كسالى؟ من صنفهم في قائمة المهملين الأغبياء؟ هؤلاء الأطفال صنفوا مبكراً في قائمة المنبوذين والذي سيكون منهم بلا شك العاطل والمدمن والسارق والسفاح.. وما هؤلاء الأطفال الأبرياء إلا ضحايا بعض المعلمين الدخلاء على هذه المهنة العظيمة، التي حملت على عاتقها بناء الفرد السوي القوي الأمين.
يقول دانييل جولمان في كتابه " الذكاء العاطفي " : عندما صُنِّف أطفال في إحدى دور الحضانة بمونتريال ( في كندا) ضمن فئة العدوانية وإثارة المشكلات في سن الخامسة، كانوا هم أنفسهم أكثر الأطفال جنوحاً بعد خمس أ, ثمني سنوات – أي في مرحلة المراهقة المبكرة – كانوا هم من سرقوا المحلات واستخدموا السلاح في شجارهم وكسروا أبواب السيارات وسرقوا منها بعض الأجهزة، كانوا هم من تعاطي الخمور واستخدموا الأسلحة.. لقد ارتكبوا هذه الجرائم كلها قبل أن يبلغوا السادسة عشر.
أيها المعلم قبل أن تختار هذه المهنة العظيمة عليك أن تعرف قدرها وخطورة مركزك فيها، إنك تمثل نموذجاً وقدوة لهؤلاء الطلبة ، إن حركاتك بينهم مرصودة، وكلامك لهم مسموع لا مطعن فيه، أحرص على اختيار ألفاظك وأملأها بعبارات المدح والثناء والتشجيع والإطراء، وانبذ أسلوب التحطيم والتقزيم، ليكن قدوتك في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، المعلم الرؤوف الرحيم بأصحابه الذي رفع قدر أصحابه – رضي الله عنهم أجمعين – وبنى فيهم همماً عالية، قد حَفِظَ الله بهم دينه بعد موت نبيه، وقادوا الدنيا زماناً.
يقول عن أبي بكر – رضي الله عنه –  : " لو كنت متخذاً خليلاً لا تخذتُ أبا بكر خليلاً" .
ويقول عن عمر – رضي الله عنه - : " والذي نفسي بيده ، ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك" .
ويقول عن عثمان – رضي الله عنه - : " ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة" .
ويقول عن علي – رضي الله عنه - : " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " .
ويقول عن سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه - : " ارم فداك أبي وأمي" .
ويقول عن الزبير – رضي الله عنه - : " لكل نبي حواريٌّ وحواريَّ الزبير " .
ويقول عن أبي عبيدة – رضي الله عنه -- : " هذا أمين هذه الأمة " .
وهكذا سيرته مع بقية أصحابه، حتى أحبوه وتلقوا عنه وفدوه بأنفسهم.
إنك لم ولن تغير طبع أحد أو تؤثر فيه، إلا إذا أحبك ورأى منك حباً رحيماً متدفقاً من عينيك إليه، فاحرص أيها المعلم ألا تقترب من هذه المهنة حتى تكون قد أحببتها، فأن حبك إياها يفيض على تلاميذك حباً وتشجيعاً وبناءً.. وفاقد الشيء لا يعطيه.
أعيدها وأعيدها وأعيدها .. إذا أردت أن تنجح لا تصدق قول المقزِّمين المثبِّطين، شجع نفسك وآمن بكفاءة قدرتك، صدِّق تشجيع الآخرين لك لأنك حقاً تستحق هذا المدح والإعجاب كله.. إني أنصح المعلمين والآباء باستبدال أسلوب الامتهان والاستهزاء بأسلوب التشجيع والإطراء.

إني أتذكر قول أستاذي أستاذ علم النفس وحكيم التربية الدكتور إبراهيم الخليفي وهو يخاطب الآباء أينما رآهم قائلاً لهم: " انظروا بعين النحلة ولا تنظروا بعين الذبابة".
أوقف التقزيم والنقد.. فتش عن إيجابيات ابنك وإن كانت قليلة، وأظهر إعجابك وفخرك بها، وغض الطرف عن سلبياته وعثراته مهما كَبُرَ حجمها في عينيك.. إذا أردت أن تُشعل فحمة البخور، ففي أي اتجاه تنفخ؟ في اتجاه الفحمة المتقدة الصغيرة ، أم بالاتجاه الآخر من الفحمة المطفئة؟ إنك بلا شك ستنفخ باتجاه الفحمة المتقدة الصغيرة، لأن النفخ فيها مثمر ومفيد وسيُشعِل بقية القطعة، أما إن ظللت تنفخ بالاتجاه الآخر فهذا يعني أنك ستصرف الكثير من وقتك ودون فائدة.. وهكذا عليك أن تكون مع أبنائك، تبحث عن محاسنهم وتتكلم عنها أمامهم، معجباً ومفتخراً بها، فلن يطول عليك الزمن أيها الأب إلا وهذه المحاسن الصغيرة قد أثمرت وأينعت وكبرت، ولن يقبل الأبناء هم أنفسهم بأية رديئة ونقيصة تعكر صفاء وجمال صورتهم لديك، ولن تَراهم إلا وقد تطبعوا بكل عادة حسنة تعجبك.
في جنوب أفريقيا يحفرون الأرض بحثاً عن الألماس، أطنان من التربة تُزاح من أجل العثور على قطعة صغيرة من الألماس بقدر ظفر الأصبع، وعمال المنجم مستعدون ليتركوا وراءهم مئات الأطنان من أوساخ التربة من أجل العثور على هذه القطع النفيسة. في الحياة اليومية ينسى الناس هذا المفهوم ويصبحون أكثر تشاؤماً، بسبب أن الأوساخ تحيطهم أكثر من الجواهر النفيسة التي يعثرون عليها. عندما تأتي المشكلات لا تخشى السلبيات، بل ابحث وسط هذه المشكلات عن الإيجابيات واستخرجها، فهذه الإيجابيات هي النفائس التي تبحث عنها.. في أثناء البحث ستتعامل وتشاهد أطنان الأوساخ، لا تلتفت لها واتركها وراءك.. كن إيجابياً وافرح بالإيجابيات التي تعثر عليها حتى ولو كانت صغيرة.
يقول الدكتور سبنسر في كتابه الرائع ( أب الدقيقة الواحدة) :
خرجتُ مع أبنائي ذات صباح إلى السوق، وعند وصولنا إلى هناك أخذنا نتجول بين أرفف السوق نبحث عن نواقص البيت، وفي أثناء تجوالنا رأيت شيئاً غريباً! رأيت وبأسلوب متعمد كيف أوقعت ابنتي الصغيرة علب البازلاء! إنها تعمدت ذلك أنا متأكد.. لقد أوقعتني في حرج شديد، فعلب البازلاء منتشرة على الأرض.. لزمت السكوت ولم أعنفها، وشرعت أنا وأبنائي نرتب العلب المتناثرة ونرجعها إلى وضعها السابق.
خرجنا من السوق وركبنا السيارة وما زلت أفكر فيما حدث من ابنتي، لِمَ تعمدت إسقاط العلب ؟! وفي أثناء مسيرنا إلى البيت ، لفت انتباهي لوحة على الطريق مكتوب فيها " انتبه لي"، فانتبهت إلى نفسي وعرفت سر التخريب المتعمد الذي عملته ابنتي في السوق.. هي تريد اهتماماً مني لأني لم أكن أنتبه إلى أبنائي إلا عندما يخطئون ويسيئون التصرف، أما عندما يحسنون التصرف فهذا عندي أمر عادي لا أجد مبرراً للثناء عليه، لأن هذا هو ما كان يجب أن يحدث وهو لا يلفت انتباهي.. ومن تلك الحادثة بدأت انتبه إلى إيجابيات أبنائي وحسن تصرفهم وأمدحهم على كل فعل جيد، فالأبناء يكررون كل فعل يحظى بانتباه الأبوين سواء كان جيداً أو سيئاً.
امدح عندما تريد ابناً قائداً قوياً مطمئناً..
وحطم واستهزئ عندما تريد ابناً تابعاً خانعاً كأنه ريشة في مهب الريح
يُروى عن الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله – أنه قال : إذا جاءك من يريد تعلم النحو في ثلاثة أيام فلا تقل له: إن هذا غير ممكن، فتفل عزيمته، وتكسر همته، ولكن أقرئه وحبب إليه النحو، فلعله إذا أنِسَ به واظب على قراءته.
يقول الشيخ علي الطنطاوي : قرأت مرة أن مجلة إنجليزية كبيرة سألت الأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم وازدهار الآداب، وجعلت لمن يحسن الجواب جائزة قيمة، فكانت الجائزة لكاتبة مشهورة قالت : إنه التشجيع! وقالت : إنها في تلك السن بعد تلك الشهرة والمكانة، تدفعها كلمة التشجيع حتى تمضي إلى الأمام، وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير.
 كان شواب يعمل مديراً لمصنع الفولاذ في أمريكا، وكان يتقاضى أعلى راتب في العالم، حيث إنه كان يتقاضى مليون دولار في السنة، والسبب إنه كان يُحفز موظفيه فيعملون أكثر، فتزيد الأرباح والإنتاجية.
وكان الخليفة هارون الرشيد – رحمه الله – يغدق بالعطايا والصلات على طلبة العلم والعلماء، حتى قال الإمام عبد الله بن المبارك – رحمه الله - : فما رأيت عالماً ولا قارئاً للقرآن ولا سابقاً للخيرات ولا حافظاً للمحرمات في أيام بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام الخلفاء الراشدين والصحابة أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه، لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثماني سنين، وكان الغلام يستبحر في الفقه والعلم ويروي الحديث ويجمع الدواوين ويناظر المعلمين وهو ابن 11 سنة.
يقول زيج زيجلر في كتابه النجاح للمبتدئين:
إن أغلب الناس لا يعرفون أنه عندما احترق معمل توماس أديسون ومصنعه، كان عمره حينذاك يناهز الـ67 عاماً، ولم يكن هناك أي تأمين على المعمل أو المصنع، ولكن قبل أن يهدأ الركام ويستقر في مكانه، سلَّم هنري فورد أديسون شيكاً بمبلغ 750.000 دولار، وأرفق مع الشيك ملحوظة تقول: " إنَّ أديسون يمكنه الحصول على أي مبلغ يريد بخلاف هذا المبلغ".
لقد شعر العديد من الناس بالمفاجاءة من هذا الكرم الحاتمي لهنري فورد، ولكن أحد الأسباب التي دفعته لذلك يرجع على الأرجح إلى وحادثة وقعت قبل عدة سنوات، فقد كان أديسون يعمل في سيارة كهربائية، وكان قد قام بالفعل بصنع البطاريات التي جعلت هذه الفكرة صالحة للتطبيق إلى حد ما، وحينئذ سمع أديسون أن هناك شاباً يدعى هنري فورد يعمل على صنع محرك يعمل بالجازولين، ولهذا ذهب أديسون ليقابل هذا الشاب، وطرح عليه بعض الأسئلة، وأجاب هنري فورد عن أسئلة أديسون بكل دقة وعناية، وفي نهاية المقابلة قال أديسون لهنري فورد: عزيزي الشاب.. أعتقد أنك ستحقق شيئاً، وأنا أشجعك على الاستمرار في محاولاتك.
فيما بعد.. قال فورد: إن كلمات التشجيع التي قالها أكبر المخترعين وأعلاهم مقاماً في الولايات المتحدة كانت تعني الكثير بالنسبة لي، فهي من جعلتني أستمر في محاولاتي حتى نجحت.
إنها كلمات التشجيع السحرية التي لم ينسها فورد رغم مرور الأعوام والأعوام.. كم منكم ما زال يذكر معلماً عظيماً قد أوقفه مرة وقال له أمام التلاميذ: أحسنت يا بني إنك فعلاً ذكي مجتهد، أنا أتوقع لك مستقبلاً عظيماً؟
أعجبتني كثيراً قصة كفاح الفتاة الصماء العمياء البكماء هيلين كيلر ( 1880 – 1968 م )، التي كانت لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم منذ الثانية من عمرها، إلا أنها رغم ذلك تخرجت من الجامعة، وأتقنت قراءةً وكتابة إلى جانب لغتها الإنجليزية اللغة الألمانية والفرنسية واللاتينية، وألفت العديد من الكتب والمقالات، وأصبحت محاضرة بارعة التقت جميع رؤساء الولايات المتحدة في عهدها!!
لكن الذي أعجبني وأدهشني أكثر في حياة هيلين، هي معلمتها العظيمة آن سوليفان، أي روح صابرة تملك هذه المعلمة؟! أي كفاح بذلت في تعليم هذه البنت؟ لماذا كل هذا العناء يا آن؟ ما هو الرجاء الذي تحملينه لفتاة تفقد كل هذه الحواس؟ لقد كانت هذه المعلمة تجلس مع هيلين في قاعات المحاضرات لتتهجى لمساً في يدها كل ما يقوله الأستاذ المحاضر، وكانت في المنزل تنقب في القواميس لهيلين عن معاني الكلمات الجديدة، وتقرأ لها مرات عديدة الكتب التي لم تكن مكتوبة بطريقة ( برايل).. أعتقد لولا آن لما سمعنا أبداً بهيلين. لكن مازال السؤال قائماً: كيف احتملت آن سوليفان كل عناء التعليم لطالبة تفقد أهم حواس التلقي والتعلم وهما السمع والبصر ؟!
السر في ذلك كان اعتقادها الإيجابي الدائم الذي تحمله روحها عن التعليم والتعلم، إذ تقول آن : " كل طفل يمتلك كماًّ من الإبداع بداخله، وما علينا إلا أن نكتشف هذه المواهب ونطورها بالطريقة الصحيحة"..
بهذا الاعتقاد والصبر للمعلمة يا سادة خرجت المواهب المكنوزة لفتاة صماء عمياء بكماء... صماء عمياء بكماء!!!
إن المعلم الذي يعتقد أن لكل طالب موهبة وذكاء، ويتعامل بإيجابية مع مقدار الخير الذي يحمله كل تلميذ، ويحمل روحاً مثابرة محبة للتعليم، سيجني بلا شك في حياته مئات العظماء من التلاميذ كهيلين كيلر.. فقط أعطِ الحب لمهنتك وطلابك.. وحتى تعرف صدق ما أقول اسمع هذه العبارة التي قالتها هيلين كيلر عن معلمتها الرائعة آن سوليفان في كتابها The story of My Life ، قالت: " أشعر أن وجودها لا يمكن فصله عن وجودي، أفضل ما عندي ينتمي إليها، ولا توجد في داخلي موهبة أو أمنية أو متعة إلا وقد أيقظتها بلمستها الحانية".
لمستها الحانية.. هذا هو السر.. الحنان والحب أداتا السحر العظيمتان اللتان يمهد بهما المعلم طريق مهنته، فتأتيه أفئدة طلابه تهوي إليه حباً وأنساً واستماعاً، قال الخليفي في كتابه " في بيتنا مكَّار" : الحب هو الصمغ والغراء الذي يربط الفرد ربطاً محكماً بالقيم المهداة، والضمان الحقيقي للمحبة الولاء".
تدعوا لَكَ الحيتان في البحر.. والنمل في الحجر.. وأدعو لك في صدري يا معلمي .. يا من شجعتني.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا".
If you can't see it,
You can't hit it.
وأخيـــــــــــــــــــــراً
إن القاعدة التي أؤمن بها في الوصول إلى النجاح وسعادة النفس واستقرارها هي أن تكون صاحب ثلاث:
1-      رؤية واضحة:
إذا أردت أن تسافر إلى أي بلد في العالم، فإنك بلا شك تكون قد رتبت تذاكر سفرك وإقامتك مع أحد مكاتب السفريات في بلدك، ولاشك أن هذا المكتب قد اقترح عليك عدة فنادق فخمة محلاً لإقامتك..  لابد أن يكون قد اقترح عليك أن تسكن في أحد فنادق سلاسل هيلتون العالمية صاحبة الاسم العريق والخدمات المتميزة وصاحبة النجوم الخمسة التي تزين مداخلها.. فما هي قصة هيلتون؟
كان كونراد هيلتون مولع بامتلاك الفنادق، ولكن بعد الكساد الاقتصادي سنة 1929 لم يعد الناس يسافرون، وحتى و إن سافروا لم يكونوا ينزلون في فنادق هيلتون، وبحلول عام 1931 كان دائنوه يهددونه بتنفيذ الحجز، كانت مصبغته غارقة في الدين، وكان يقترض المال من حمال الأمتعة حتى يستطيع أن يأكل.
وفي تلك السنة العسيرة عثر كونراد هيلتون على صورة لفندق والدروف بأدواره الاثنين والأربعين، وبمطابخه المائتين، وندله الخمسمائة، وغرفه الألفين، ومشفاه الخاص، وقطاره الخاص الواقف في قبو الفندق.. الوالدروف الذي يمتد في سماء مدينة مانهاتن في نيويورك.
قص هيلتون تلك الصورة من المجلة وكتب عليها " أعظمهم على الإطلاق"  ووضع صورة الوالدروف في محفظته، وعندما أصبح له مكتب مرة ثانية، وضع صورة الوالدروف تحت زجاج مكتبه.. بقيت الصورة أمامه حتى عاد يستعيد صعوده ويمتلك مكاتب أكبر.. ولكنه لم ينس أن يضع تلك الصورة الغالية تحت زجاج المكاتب التي حل بها، وبعد 18 سنة من الرؤية الواضحة، وفي عام 1949 اشترى كونراد هيلتون الوالدروف.
أقول ..
صورة ذهنية ترسمها واضحة في عقلك
ستصبح واقعاً في أرضك لا محال
لقد وصف الله النصارى بالضالين، وذلك لأنهم فقدوا العلم والبصيرة الواضحة في دينهم، فتاهوا وضلوا وأَتَوا بالعجائب.. لقد بكى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – رأفة على أحدهم وهو منقطع يتعبد في محرابه، كيف يكون كل هذا العمل الجاد والانقطاع الصادق هباءً لا وزن له ؟ إنه العمل الذي يفقد صاحبه معه وضوح المعاني والرؤية المتكاملة.
لذا جاء عن سفيان بن عبد الله – رضي الله عنه – قال : قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم.
وقال عبدالله بن المبارك – رحمه الله – " رحم الله امرءاً عرف زمانه فاستقامت طريقته".
إن الذين فقدوا الرؤية الواضحة لمستقبلهم كأنهم القوا أنفسهم في تيار نهر جارف، فهم مندفعون معه لا يعرفون وجهتهم، لقد فقدوا دفة القيادة وسلموا أمرهم لهذا التيار المندفع يوجههم كيف شاء.. حتى إذا ما سار التيار بهم بعيداً.. بعيداً.. وأصبحوا على مفترق طرق كثيرة لهذا التيار، حاروا في أي مجرى يسبحون؟ ومع أي ماء يُدفعون؟! أي مجاري الأنهار ستكون الآمنة؟ وأي منها يدفعهم إلى شلال الموت؟! لقد علموا الآن يقيناً أنهم فقدوا السيطرة.
في اليوم الأول لدورة " مهارات الامتياز" أتكلم عن أهمية الأهداف ودورها في تحفيز المتعلم وتخليصه من حالة العجز والتيه الذي يعيشه. ومن ضمن فعاليات هذا اليوم أني أقوم بتحدي المشاركين وذلك بهزيمة النبال البارع!
نشأ هاورد هيل في ولاية ألاباما الأمريكية، وكان نبالاً بارعاً فاز بـ 286 دورة رماية متتالية – وفي الواقع هم لم ينهزم في مباراة قط – حتى انه اضطر إلى التقاعد، لأن أفضل نبالي العالم رفضوا التنافس على المرتبة الثانية. قتل هاورد فيلاً بقوس وسهم، ونمراً بنغالياً بقوس وسهم، وجاموساً أفريقياً بقوس وسهم، قتل قرشاً طوله 6 أمتار على عمق خمسة أمتار تحت الماء، ومن براعته في الرماية أنه يقف على مسافة 15 متراً ويصيب وسط الهدف، ثم يأخذ السهم التالي فيفلق به السهم الأول.. لكن هل تصدق أني قادر في ظرف ثلاث دقائق أن أجعلك أيها القارئ تفوز على هذا البطل؟! فكر كيف .. ثم إن شئت فتابع القراءة لتعرف السر الذي نهزم به هاورد هيل!

سنأتي ونعصب عينيه، ثم نجعله يدور حول نفسه أربعين مرة، وبعدها نأمر هارود هيل أن يطلق سهمه، ثم نأمرك أنت أيها المتحدي أن تطل سهمك أيضاً، فأي السهمين سيكون أقرب إلى الهدف؟ بلا شك سينهزم هاورد برغم المهارات العالية التي يملكها لأن الهدف قد حُجب عنهن وسهمك أيها المتحدي سيكون الأقرب برغم مهاراتك المتواضعة في الرمي.. لكن السر في الفوز هنا وفي الحياة هو وضوح الهدف.
قبل أن تعمل وتجتهد في أي أمر، قبل أن تقدم على السفر وتتحمل مسيرك الليل والنهار، حدد وجهة المسير، حدد النهاية التي تريد..ارسم الصورة التي تتمناها بوضوح.. ابحث عن خريطة الطريق التي تعنيك أنت.
إن معظم الفرق الرياضية كفريق كرة القدم مثلاً، يلعب مباراته وفي رأسه خطة واضحة ومدروسة بشكل جيد لما سيفعله طوال مدة المباراة، خطة واضحة للعبة! تسعون دقيقة من اللعب وبخطة واضحة ولكنها خطة للعبة! أليس أولى بالمسلم الذي استخلفه الله تعالى لعمارة الأرض أن يمتلك أيضاً خطته الواضحة لحياته؟ خطة تمكنه من استثمار هذه الحياة الاستثمار الأمثل الذي يعود عليه بالنفع والخير لدنياه وآخرته.. صحيح أن الأرزاق والآجال والأعمال مكتوبة معلومة عند الله، لكن الله تعالى أوكل لك أيها الإنسان صناعة مستقبلك، وترك لك حرية الاختيار في ذلك، قال تعالى:
"  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ " سورة الحشر ، من الآية رقم 18
أخيراً وقبل أن انتهي من الرؤية وأهميتها وحتى تدرك تماماً قيمة الصورة التي نرسمها لأهدافنا، اسمع هذا الفتى الحلبي الذي يحكي قصته فيقول: عشت حياة بسيطة بين أهل الحارة، حياة طفل عادي برنامجه اليومي بين المدرسة والبيت وساحة اللعب، برنامج ممل يتكرر في حياة كل طفل في حارتنا، فلا أهداف كبيرة تحرك طاقاتنا وتستثير مواهبنا، ولا أهداف واضحة نعيش لها ونثابر من اجلها، اليوم هو الأمس هوالغد، هكذا أشعر وهكذا يشعر من حولي.
استمرت هذه الحال حتى تعرفت على رجل من أهل الحارة يملك آلة عرض سينمائي، وهي آنذاك آلة بسيطة ذات بكرات تعرض أفلامها على حائط المنزل العادي، لقد كان بعض أهل الحارة وبعد أطفالها يجتمعون عند هذا الرجل مستمتعين بمشاهدة بعض من أفلامها، لقد فتنتني هذه الآلة بأضوائها وحركة بكراتها، فأخذت أعرض على هذا الرجل مساعدتي له بالمجان، فكنت أقوم قبل العرض بتجهيز الآلة وتوصيل الكهرباء وتركيب الأفلام، ثم أجلس مع الحضور أراقب العرض حتى النهاية، وبعد العرض أقوم بتفكيك أجزاء الآلة وتنظيفها استعداداً للقاء القادم. ويوماً بعد يوم أخذ حبي لهذه الآلة ينمو ويزداد.. لقد مَلَكت قلبي وعرفت منها الإثارة والتحدي لأول مرة في حياتي، ولذا أخذت قراري.. لقد قررت أن أصبح مخرجاً سينمائياً وأن أدرس الإخراج في مدينة الأضواء، هناك في أمريكا.. في مدينة هوليود.
أعلنت ذلك لبعض الأهل والأصدقاء، فانتشر الخبر في كل الحارة، وبعدها بدأت معركتي مع أعداء الطموح.. الأهل،حت مضحكة أهل الحارة جميعاً، الكل يستهزئ بي.. الأهل ، الزملاء، المعلمون ، الجيران، الفران ، الجزار، الفلاح، وأحياناً حتى الأشجار والجدران.. هكذا كنت أشعر أحيانا بعدما صار الاستهزاء بي تصريحاً لا تلميحاً، كنت أرى الابتسامة الساخرة في كل مكان، حتى بين تقاطيع وجوه المثقفين والعقلاء من أهل الحارة.
كبرت وكبرت ولم أجد صوتا واحداً يشجعني، كانت المشكلة أن حلمي يكبر معي وتكبر معه سيول الاستهزاء والسخرية، لم أجد أبداً من يشجعني على تحقيق حلمي إلا صورة متفائلة كنت قد رسمتها في عقلي.. صورة النجاح والإنجاز، قررت عدم الانتظار والرحيل فوراً إلى هوليود ، أعطاني أبي 200 دولار ومصحف وقال: هذا كل ما أستطيع أن أعطيه لك.
وصلت إلى هوليود وبدأت مشوار الدراسة.. كان مشواراً طويلاً مع الدراسة والكفاح والسهر والجوع والحرمان والغربة.. لا مؤنس لا صديق لا قريب، كم هي المرات التي راودتني نفسي على الرجوع إلى بلدي وأن أترك الإخراج لأهله من الأمريكان، كان صراعاً مع النفس كبير.. ما كنت أبداً سأصمد لهوى نفسي لولا صورتين كنت أحملهما دائما في عقلي، صورة يوم التخرج وحصولي على شهادة الإخراج من هوليود وصورة أهل الحارة وهم يتضاحكون علي لو أني انسحبت وتخليت عن حلمي، صورتين جلدتاني جلداً ودفعتاني دفعاً نحو الهدف.
مضيت بعزيمة نحو هدفي ونسيت معه كل متع الدنيا وكل الضيق والحرمان الذي أعيشه.. وأخيراً حققت حلمي وأصبحت مخرجاً سينمائياً.
كانت هذه قصة صانع أشهر الأفلام العربية وأرقاها، فيلمي الرسالة وعمر المختار.. كانت هذه قصة المخرج العالمي مصطفى العقاد.
وفي ثانوية " لاني" الأمريكية أخذ التلميذ مايكل جوردن يترقب أن يضعه مدرب كرة السلة في قائمة فريق الثانوية، وعند إعلان المدرب تشكيل الفريق وإلصاق القائمة في غرفة تبديل الملابس، تدافع الطلاب في غرفة التبديل لرؤية أسماء اللاعبين الواردين في القائمة، وبعد تدافع وزحام شديد اقتربت عينا مايكل من القائمة.. القائمة التي كانت خالية من اسمه.. كانت صدمته كبيرة.. لقد استبعده المدرب من التشكيل.
عزم مايكل أن يضاعف تدريبه حتى تكون له فرصة أخرى للانضمام للفريق، وفي تلك اللحظات من التدريب الشاق يقول مايكل: " كلما أحسست بتعب التدريب أو كلما راودتني نفسي على التوقف والاستسلام، فإني أغمض عيني لأرى تلك الصورة.. تلك القائمة في غرفة تبديل الملابس التي لم يكن اسمي موجوداً فيها.. وهذا عادة ما يدفعني للنهوض والعمل مرة أخرى".

كن صاحب رؤية واضحة تعينك على الاستمتاع بسعيك لها،
وتحمل ما يأتيك من اجلها بروح الصابر المتفائل،
كن صاحب رؤية واضحة تعينك على تحديد مسارك
والإسراع له بخطاً ثابتة مطمئنة.
اعلل النفس بالآمال أرقبها          ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
ومن لا يحب صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر.
2- مثـــابــــر
بعيداً عن الحظ والمحظوظين.. فإن الدنيا لا تعرف صاحب إنجاز أنجزه، ولا صاحب نجاح حققه، إلا وكان ذلك الإنسان عاملاً مثابراً، جاداً ذا عزيمة، لا ينام ملء جفنيه ولا يضحك ملء شدقيه، يريد أن يكون شيئاً مذكوراً خطواته ثابتة لا ترى فيها عوجاً أو تباطئاً، يعرف حق المعرفة أن قطرات الماء المتتابعة تحفر أخدوداً في الصخر الأصم.
إن جاءته العوائق والمحن صبر ورضي ورفع يديه إلى الله، الله الرحيم الذي ينبه عباده بهذه المحن أنَّ ما من نعمة ولا نجاح إلا بتوفيق الله وفضله، عَّلم الإنسان أن تلك المشكلات خيرٌ وكفارة لذنوبه، فما يُحرم الإنسان من شيء إلا بذنب أو لرفع بلاء، وما هذه العوائق إلا تدريب سماوي على ضبط النفس ومعاودة النهوض بلا يأس أو قنوط.. وما هي إلا أيام أو سويعات أو جلسة استغفار استغفرت الله بها ألف مرة – تزيد أو تنقص – إلا وهذه المشكلات قد جاوزتها وبدأت المسير من جديد.. المهم ألا تنكسر وتتباطأ في النهوض.. بل انهض من جديد لتحيا.
قال صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، تفيئها الرياح، تصرعها مرة وتعدلها، حتى يأتيه أجله، ومثل المنافق مثل الأرزة المجذية التي لا يصيبها شيء، حتى يكون انجعافها مرة واحدة ".
قال السفير عبد الفتاح شبانه في كتابه (  اليابان.. العادات والتقاليد وإدمان التفوق) :
" علمت الزلازل المتكررة الشعب منذ القدم ألا يقاوم الطبيعة، وأن يتعايش معها ويتقبل في هدوء جموحها، ويقرر علماء الاجتماع أن هذه الصفة لا تُعد روحاً انهزامية ولكنها وسيلة للبقاء، ويشبهون ذلك بأعواد البامبو التي تنحني للعاصفة، وبذلك تتفادى الكسر والاقتلاع".

وإليك الآن مثالاً لأحد أفراد هذا الشعب الجاد ، إنه سويكيرو هوندا مؤسس شركة هوندا… عام 1938 وحين كان هوندا لا يزال طالباً في المدرسة، استثمر كل ما يملك في ورشة صغيرة، وبدأ يطور فيها مفهوم حلقة الصمام Piston Ring  والتي تستخدم للسيارات، وكان يريد أن يبيع ما ينتجه لشركة تويوتا، لذا أخذ يجاهد ليل نهار وذراعاه مغموستان في الشحم حتى مرفقيه، وينام في ورشته وهو يمتلئ إيماناً بأنه قادر على التوصل إلى نتيجة، بل إنه رهن مجوهرات زوجته لكي يتمكن من متابعة عمله، غير أنه حين استكمل حلقات الصمام التي يصنعها وقدمها لشركة تويوتا، قيل له إنها لا تتوافق مع مقاييس تويوتا، لذا عاد إلى المدرسة لمدة سنتين حيث احتمل وصبر على سخرية مدرسيه وزملائه في الدراسة وهم يتحدثون عن سخافة تصميماته.. لقد كان هذا في نظر الآخرين أول فشل.
لكنه قرر أن يتابع التركيز على هدفه بدلاً من التركيز على الألم الناجم عن تجربته الفاشلة، لقد عَلِمَ هوندا أن المحاولات الفاشلة إنما هي تجارب نتعلم منها ونقترب من خلالها إلى الأفضل، وإنما الفشل الحقيقي أن تستسلم وتلقي بأدواتك إلى الأرض.
وبعد عامين من العمل الجاد والمثابرة، وقعت معه شركة تويوتا العقد الذي طالما حلم به، لقد اقتنعت تويوتا بتصميمات هوندا البارعة لحلقة الصمام، وطلبت إمدادها بهذه التصاميم.. عَزَمَ هوندا على بناء معمل خاص به لعمل تلك التصاميم، لكن الحكومة اليابانية كانت تعد نفسها للحرب، ولذا رُفض طلبه للحصول على الإسمنت اللازم لبناء المعمل.. فهل توقف؟ هل استسلم؟ لقد قرر أن يحاول ويحاول ويحاول، حتى تمكن هو وفريقه من اختراع عملية لإنتاج الإسمنت اللازم لهم، وبعد مرور الأيام المصحوبة بالعمل الدءوب والجهد المتواصل، أصبح المعمل جاهزاً للعمل عياناً للناظرين.. وما أن بدأ العمل حتى قُصف معمله بقنابل الأمريكان في أثناء الحرب، ماذا يعمل؟ أجزاء رئيسة من المعمل قد دُمرت.. هل يتراجع؟ لابد من إصلاح الأجزاء المتضررة.. أعاد هوندا ومعاونوه ترميم المصنع، وبدأ العمل من جديد، وبعد أيام معدودة نزلت على هذا المعمل قنبلة أمريكية أخرى دمرت أجزاء كثيرة منه.
ما هذا الحظ السيء!! لا بد من الاستسلام.. سأبحث عن عمل آخر.. سأترك هذا العمل إلى غير رجعة.. من يردد هذه العبارات يا ترى؟ هل كان ذلك صوت هوندا؟
أيها القراء: هدئوا من روعكم، لم يقل هوندا أيا من تلك العبارات المنسحبة المستسلمة، بل كانت عبارات المحبطين المستهزئين، الذين شاهدوا كل ما حصل لهوندا، قد يكون فيهم الآباء أو الإخوان أو الأصدقاء أو المعلمون.. فماذا عمل هوندا لكل تلك الأصوات الساخرة؟
لقد أعاد بناء معمله وترميم أجزاءه التالفة، وجند فريقه على الفور فأخذوا يجمعون علب البنزين الفارغة التي كانت المقاتلات الأمريكية تتخلص منها، حيث أَطْلَقَ على هذه العلب مسمى" هدايا الرئيس الأمريكي ترومان" ، لأنها وفَّرت له المواد الأولية التي يحتاج إليها للعمليات الصناعية التي ينوي القيام بها، وهي مواد لم تكن متوافرة في اليابان آنذاك.. لقد أشرف معلمه العتيد على إنتاج الصمامات التي طلبتها تويوتا، لقد اقترب النجاح، وفي هذه الأثناء من الترقب السعيد لمشاهدة أول باكورة إنتاج المصنع، حدث زلزال.. زلزال دَمَّرَ معمل هوندا تدميراً كاملاً، قرر بعدها هوندا بيع عملية صنع الصمامات لشركة تويوتا.
لم يكن ذلك استسلاماً من هوندا بل كان ذلك تمايلاً مع أعواد البامبو لتفادي الكسر والاقتلاع، ومازال هوندا كما عهدناه يتقد نشاطاً وهمة وعزماً، فبعد الحرب عانت اليابان ندرة مريعة في مئونات البنزين، بحيث أن هوندا لم يعد قادراً على قيادة سيارته لجلب الطعام لعائلته، وفي النهاية ركب هوندا محركا صغيراً لدراجته، وسرعان ما أخذ جيرانه يطلبون منه أن يصنع لهم دراجات تسير بقوة محرك، وأخذوا يتدافعون للحصول عليها، بحيث لم يعد يملك هوندا أية محركات، ولذا قرر أن يبني مصنعاً لصنع المحركات لاختراعه الجديد، غير أنه لم يكن يملك رأس المال اللازم لذلك.. مع الأسف.
ولكنه صمم هذه المرة أيضاً على أن يجد طريقة ما.. مهما كانت التحديات، وكانت خطته هي أن يناشد أصحاب محلات الدراجات في اليابان وعددهم 18000 شخص أن يهبوا لمساعدته، وأخذ يكتب خطابات لهم ليبلغهم بأنه يسعى إلى لعب دور في إعادة إحياء اليابان من خلال قوة الحركة التي يمكن لاختراعه أن يوفرها، واستطاع اقناع 5000 من هؤلاء البائعين بأن يقدموا رأس المال اللازم له، غير أن دراجته النارية لم تُبع إلا للأشخاص المغرمين جداً بالدرجات، إذ أنها كانت شديدة الفخامة، ولذا أجرى تعديلاً جديداً لصنع دراجة أخف وأصغر كثيراً من دراجته، وسماها Super Cub وسرعان ما حققت الدراجة نجاحاً باهراً، بحيث فاز بجائزة إمبراطور اليابان.. وبعد ذلك بدأ بتصدير دراجاته النارية إلى أوروبا والولايات المتحدة، وبعد ذلك بدأ يصنع سيارته في السبعينات من القرن العشرين، وحظيت هذه السيارة برواج واسع النطاق.
تستخدم شركة هوندا الآن ما يزيد عن 100.000 عامل في كل من الولايات المتحدة واليابان، وتُعَد إحدى أهم إمبراطوريات صنع السيارات في اليابان، حيث لا يفوقها في كمية المبيعات في الولايات المتحدة إلا شركة تويوتا.. لقد نجحت هذه الشركة لأن رجلاً واحداً أدرك ثمرة العمل الجاد والجهد المتواصل... تحية من القلب إلى سويكيرو هوندا.
أبارك في الناس أهل الطموح          ومن يستلذ ركوب الخطر
يقول القزويني صاحب كتاب " عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" :
" إن الإنسان إذا لم يُصب في أول مرة فليدرس الأسباب ثم ليعيد المحاولة تلو المحاولة، فهذا سبيله إلى النجاح.. إياك أن تمل أو أن تفتر، إذا لم تُصب في محاولتك الأولى أو الثانية قد يكون ذلك لفقد شرط أو حدوث مانع، وحسبك ما ترى من حال المغناطيس، إذا وجدته لا يجذب فلا تنفي عنه خاصية الجذب، بل ابحث عن العائق في عدم جذبه الحديد".

يقول لاعب السلة الأمريكي الشهير مايكل جوردن: أخطأت إصابة الهدف أكثر من 9000 مرة في أثناء اللعب الرسمي مع فريقي و26 مرة  كنت واثقاً فيها أننا سنكسب المباراة في لحظاتها الأخيرة بواسطة الرميات الحرة لكني أيضا فشلت، لقد فشلت وفشلت وفشلت مرة بعد مرة بعد مرة، وهذا هو سر نجاحي.. هذا ما قاله أشهر لاعب رياضي في القرن العشرين..مايكل جوردن الذي استبعده المدرب من فريق كرة السلة بمدرسته الثانوية.
إذا اتضحت لك الرؤية وبان لك الأمر فثابر واجتهد، ولا مانع أن تتحمل من أجل تلك الرؤية العوائق والمشكلات، ويا له من صبر جميل لمراد جميل، المهم ألا تقف وتستسلم، تجاوز مشكلاتك فإن المشكلات إما أن تلتهمك أو تلتهمها.. عاود النهوض مرة بعد مرة، لأني لا أريدك يائساً حزيناً مثل الذي قال:
تقدمني أناس كان شوطهـــــم      وراء شوطي إذ أمشي على مهلِ
هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا      من قبله فتمنى فسحة الأجـــــــــل
قبل أن تخرج الفراشة من شرنقتها، فإنها تمر بصراع كبير حتى تتحرر، وإذا ما عطف أحد الملاحظين عليها وشق الشرنقة ليُمكنها من التحرر، فقد ينتهي الصراع، ولكن الفراشة ستمر بعواقب مهلكة، فقد تموت سريعاً لأنها لن تكون قادرة على الطيران. ما لم يعرفه الملاحظ الذي ساعدها هو أن الصراع كان ضرورياً للفراشة لتقوية جناحيها في سبيل أن تطير.. بدون الصراع ستكون الفراشة ضعيفة وستموت.
وقصة الفراشة هذه تذكرني بنصيحة مطرب الأسماع وبيتهوفن التربية الدكتور إبراهيم الخليفي عندما أسمعه كثيراً وهو ينصح الأمهات والآباء بأن يتركوا أبناءهم يعانون ويحاولون وحدهم، دعهم مع الواجب المدرسي يحاولون ويحاولون، دعهم يواجهون مشكلاتهم أحيانا وحدهم، أعطهم مساحة من الاختيار ودعهم يتحملون مسؤولية هذه الاختيارات، دع ابنك يفكر ويبحث وابتعد عنه قليلاً.. وفي النهاية فإن الأسرة التي أشفقت على أطفالها وترستهم مبكراً بالحماية الزائدة، هي التي ستحصد لاحقاً عالات المجتمع وشبابه المستهلك، أما الأسرة التي تحملت منظر المعاناة على أطفالها وداست على قلبها تصبراً، فإنها هي الأسرة التي ستقطف القادة وعظماء العالم ومفكروه.
أقول إن مواجهة المصاعب والصبر على محاولات تخطيها هي من صفات العظماء والخالدين، كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أشد الناس بلاءً! لماذا ابتلاهم وهم أصفياؤه ورسله إلى خلقه؟ ذلك لأنهم أحب الخلق إليه، يريد منهم صبراً وشكراً وحمداً وذكراً، يريد أن يذيقهم لذة ما بعد الصبر والعناء والمكابدة من الرضا والفرحة والانتصار. الذي يحب حقاً لا يرضى أن يكون درعاً دائما لمحبوبه بل يضعه في موقف التحدي والمواجهة حتى لا يحرمه واحدة من ألذ اللذات.. طعم النجاح بعد العناء وطعم الفوز بعد الخوف والترقب. إن حماية المتدرب من المشكلات والعوائق يفقده الإحساس بتقدير ذاته وتقدير نجاحاته، فكل نجاح سيحققه سيكون فاتراً لا فرحة فيه، ويكون له كالماء لا طعم ولا لون ولا رائحة، فأي لذة ونشوة لنجاح لا عناء فيه ولا كفاح.
قال ابن القيم- رحمه الله - :" قد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، و أن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة،فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" .
اطلب العلم ولا تكسل فما          أبعد الخير على أهل الكسل
لا تقل أصلي وفصلي أبداً          إنما أصل الفتى ما قد حصل
أُحِبُّ دائماً وفي نهاية دورة " مهارات الامتياز" أن أقول للمشاركين هذه القصة..
عندما حاول أدموند هيلاري Edmund Hillary في المرة الأولى تسلق قمة إفرست لم ينجح، وخلَّف ثلاثة من رفقائه أمواتاً عند سفح الجبل، لكن لأن مجهوده كان كبيراً جداً، منحته الحكومة الإنجليزية أرفع أوسمتها، واستدعته للمثول أمام البرلمان، وفيما كان يدخل البرلمان لتكريمه.. وقف الجميع وراحوا يصفقون له، ومع توجه السيد أدموند نحو صدر القاعة، كانت هناك صورة عملاقة خلف المكان المخصص لوقوفه، وكانت صورة لقمة إفرست.. كانت صورة رهيبة، تجاهل السيد إدموند هيلاري الجميع تماماً وتجاهل التصفيق وتجاهل كل ما كان يُقال بين الحاضرين، ووقف مباشرة أمام تلك الصورة للحظة أو لحظتين.. ثم لوح بقبضته مخاطباً جبل إفرست، وقال: " لقد ربحت أنت هذه المرة، أنت كبير بقدر ما ستكون دائماً ، ولكني أنا الأكبر باستمرار.
يقول لنا التاريخ إنه في تمام الساعة 11:30 صباحاً في 29 مايو 1953 نجح ادموند في محاولته الثانية في تسلق قمة إفرست – وهو أول رجل في العالم يتسلق قمة إفرست – هل تصدقون ذلك؟ هل تصدقون أنه هزم الارتفاع، وانخفاض الضغط والبرودة التي تصل إلى حد التجمد، وهزم مخاطر الانهيارات الثلجية، وكل مخاطر التسلق لهذا الجبل الشاهق؟!
يمكن للبعض أن يصدق هذا ولا سيما إذا أمنا أن التدريب المكثف يطور المهارات ويزيد من قدرة الاحتمال للشباب الذي يتمتعون بكامل الحواس والقدرة الجسدية مثل ادموند هيلاري.. لكن الذي لا يصدقه العقلاء ولا سيما العارفين مخاطر التسلق، أن يصل إلى قمة إفرست رجل أعمى!! نعم لقد استطاع إرك وينماير الأعمى في 25 مايو 2001 أن يصبح أول رجل أعمى يصل إلى قمة إفرست.

الذي أستغربه من هذا الأعمى.. أن يهزم وبرغم فقدان البصر كل المخاطر المميتة لهذه القمة، ويهزم معها 8848 متراً من الارتفاع الشاهق، في حين يفشل بعض الطلاب بأن يهزم وريقات المقرر الدراسي البسيطة رغم كل الحواس الكاملة التي نتنعم بها !!
الفرق بيننا وبين هذا الأعمى هو وضوح الهدف لديه وهي القمة، وإيمانه الراسخ بفائدة التدريب والمثابرة والجهد المكثف للوصول إلى الهدف المحدد.. إني أومن تمام الإيمان، إن أنتم عرفتم ما تطلبون وبذلتم له الوقت والجهد المستمر سأراكم في القمة كما وصل هذا الأعمى المثابر إلى القمة.
ولم أر في عيوب الناس عيباً          كنقص القادرين على التمام
أخبرني الأطباء بأنني لن أستطيع السير ثانية ،،،
ولكن أمي قالت لي أنني سأستطيع.. فصدقت أمي.
3- لا تقبل الرسائل السلبية ..
يُروى في التراث الصيني.. أن مزارعاً فقيراً في قرية كان يملك حصاناً، وكان أهل القرية كذلك مزارعين فقراء، ولكنهم لا يملكون أي حصان، وفي ذات صباح تجمع أهل القرية عند المزارع الفقير وقالوا له: ما أسعدك! ما أحسن حظك! كلنا لا يملك حصاناً وأنت تملك حصاناً يساعدك في الزرع ويحملك إلى حيث تريد.
التفت المزارع إليهم باسماً وهو يقول: ربما.
وفي ذات صباح اختفى حصان الرجل الفقير، فتجمع أهل القرية فقالوا للمزارع: يا مسكين، يا تعيس الحظ، هرب حصانك، هرب الذب كان يساعدك، ما أسوأ حظك.
فالتفت المزارع إليهم باسماً وهو يقول: ربما.
وفي فجر صباح الغد: رجع الحصان وبصحبته حصان وحشي قد ألِفَ حصان المزارع.
فتجمع أهل القرية عند المزارع فقالوا: ما هذا الحظ العظيم! يالك من محظوظ، قد صار عندك حصانان، يالهناك.
فالتفت الرجل إليهم باسماً و هو يقول: ربما.
وفي مغرب ذلك اليوم وعند انتهاء العمل، أحب الابن الوحيد للمزارع أن يركب الحصان الوحشي ليألفه، فامتطى ظهره، وما هي إلا خطوات حتى هاج الحصان الوحشي وسقط الابن وكسرت يده فأتى أهل القرية للمزارع قائلين: يا لرداءة حظك، يا لحظك العاثر، ابنك وحيدك كسرت يده، من سيساعدك في حراثة الأرض؟ من سيشاركك العمل بعده؟ يالك من مسكين.

فالتفت إليهم باسماً وهو يقول: ربما.
وتمضي أيام قليلة... وإذا بالجيش الصيني داهم القرية وأخذ شباب القرية: إنه يتأهب لخوض حرب قادمة لعدو قريب يتربص، دخل أفراد الجيش بيوت الفقراء، أخذوا كل الشباب لم يدعوا أحداً، لكنهم عندما دخلوا إلى بيت المزارع الفقير، وجدوا ابنه مكسور اليد، قد لُفَّت يده بجبيرة، فتركوه.
فتجمع أهل القرية عند المزارع وقالوا: لم يَدَعُوا شاباً من شبابنا إلا أخذوه، ما تركوا أحداً، ما تركوا إلا ابنك، ما هذا الحظ العجيب!! يالقوة حظك.. ما أسعدك.
فالتفت الرجل إليهم باسماً كعادته وهو يقول: ربما.
لا تخلو حياة إنسان من مشكلات، الغني له مشاكله، الفقير له مشكلاته، العاطل، الكبير، الصغير، الكل تعصف به المشكلات.
قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
صغيرٌ ودّ لو كَبُرا      وشيخٌ ود لو صَغُرا
وحالٍ يبتغي عملاً      وذو عملٍ به ضجرا
وربُ المال في تعب     وفي تعبٍ من افتقرا
فهل هم حاروا مع الأقدار    أم هل هم حيروا القدرا؟!
ليس المهم ما يقع عليك من مشكلات الأحداث، المهم بأي عين تنظر للحدث، بعين المتفائل المستبشر بالخير، أم بعين المتشائم المتكهن بالشر، تأكد من لون نظارتك التي ترتديها، أهي سوداء مظلمة أم بيضاء مشرقة؟ صاحب النظارة السوداء لا يرى إلا الظلمة والنقص والفشل، وصاحب النظارة البيضاء، ذلك المطمئن بالله المتوكل عليه الراضي بقدره، لا يرى إلا الخير القادم والكمال والنجاح.
لقد كان سيد التابعين عطاء بن أبي رباح، أسود، أعور ،أفطس، أشل،أعرج، ثم عَمِيَ بعد ذلك، وقال عنه إبراهيم الحربي: كان عطاء عبداً أسود لامرأة من أهل مكة، وكان أنفه كأنه باقلاء.. ستة عيوب كانت في عطاء، ماذا تظنه قد فعل بها؟ هل تكسرت عزائمه؟ هل بكى على قدره يائساً ومنتظراً يوم موته للخلاص من الدنيا والخلاص من تهكمات الناس وسخريتهم؟ هل قال عطاء لنفسه: أنا عبد مملوك سأظل هكذا إلى الأبد، أنا أسود وأعور وأشل و.... لن يقبلني أحد؟!
لقد كان لعطاء أذنان تسمعان، ورجلان تمشيان، كان لعطاء لسان يتكلم، ويد تكتب، وعقل يفكر ويحفظ.. هذا ما وجده عطاء في نفسه، كان ينظر بعين المتفائل الراضي الذي يمتلك الكثير من النعم.. لقد كان يعلم أن التغيير يبدأ من الداخل، المهم كيف أرى نفسي لا كيف يراني الناس، إذا كنت ترى نفسك قوياً ذكياً فهكذا ستبدو وبهذا سيعاملك الناس، إن السعيد هو من يرى الوجود سعيداً، سأطلب العلم عند كل عالم.. سأجتهد وأتعلم وأثبت لنفسي أني قادر على تغيير حياتي إلى الأفضل.. بهذه العبارات المتفائلة خاطب عطاء نفسه.. فماذا حدث؟
لقد صاح المنادي في زمن بني أمية في مكة أيام الحج: لا يفتي الناس إلا عطاء. وقال عنه الإمام أبو حنيفة: ما رأيت أفضل من عطاء. وقال الإمام إبراهيم الحربي: جاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه، فجلسوا إليه وهو يصلي، فلما صلى التفت إليهم، فمازالوا يسألونه عن مناسك الحج، وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان لابنيه: قوما، فقاما، فقال: يا بني لا تنيا في طلب العلم ، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود.
لقد أصبح عطاء بن أبي رباح عالم الدنيا في زمنه.. رسم صورة ذهنية متفائلة مشرقة عن نفسه وواقعه، فكان له ما رأى وتوقع.. تفاءلوا بالخير تجدوه.. هذه كانت قصة عطاء الذي مكث في الحرم 30 سنة يطلب العلم.
ولد كفيف البصر، لكنه تعلم اللغة الفارسية واليونانية واللاتينية والتركية، وبرع في علوم المنطق والرياضيات والطبيعيات، ورحل للتعلم إلى أماكن كثيرة منها تركيا وروسيا وأوروبا ومصر، وألف كتابه الشهير في الأدوية " التذكرة" الذي يقع في ثلاثة مجلدات، والذي صار مرجعاً في التداوي لقرون عديدة في مدارس الطب ومعاهده وكلياته في أوروبا والعالم الإسلامي، هل عرفتم هذا الرجل الأعمى الذي أتحد عنه؟ إنه رئيس العشّابين في البيمارستان المنصوري بالقاهرة وأبقراط زمانه، العلامة الطبيب، وأبو الصيدلة داود الأنطاكي.
الملحن الألماني بيتهوفن ( 1770 – 1827م) أخذ يفقد حاسة السمع شيئاً فشيئاً، فقد كان يسمع بصعوبة في الثلاثينات من عمره، ثم أصبح أصم تماماً في سن السادسة والأربعين، ومع ذلك فقد ألف أروع موسيقاه في سنواته الأخيرة ( وهو أصم).
وهذا لويس برايل ( 1809- 1852م) أصيب بالعمى في سن الثالثة، ورغم ذلك أصبح فيما بعد مدرساً في باريس، وقام بوضع أسلوب الكتابة الشهير للمكفوفين والذي سمي باسمه.
ابن سيده يؤلف كتابه " المخصص" وهو أعمى، كتابه الذي يقع في 17 مجلداً، في كل جزء قرابة 300 صفحة، بها من أصول اللغة وخصائصها ونواحي اتصالها بالحياة ما جعله قبلة اللغويين في العصور المختلفة.
سُجن السرخسي لإلف المبسوط في 30 مجلداً، وأصاب الشلل ابن الأثير فصنف جامع الأصول والنهاية في 30 مجلداً.. أرأيتم، حتى عندما تفقد إحدى كبرى النعم مثل نعمة الحرية قد يكون لك فيها منحة من الله!

تقول هيلين كيلر تلك العمياء الصماء البكماء:
" عندما يوصد في وجهنا أحد أبواب السعادة تنفتح لنا العديد من الأبواب الأخرى، لكن مشكلتنا أننا نضيع وقتنا ونحن نظر بحسرة إلى الباب المغلق، ولا نلتفت لما فُتحَ لنا من أبواب"
يتعرض الطفل الصغير رون سكانلان عام 1956 لحادث سيارة، وينقذ الأطباء حياته، ولكنه يصاب بالشلل التام من الوسط وحتى قدميه، كان عليه أن يجلس على كرسي المعاقين طوال حياته، هكذا كان قدره.. لكنه لم يجلس ليندب حظه ولم يصطدم مع القدر.. شعر أن لديه أطرافا أخرى تتحرك.. قدرات يستطيع استغلالها.. عطايا أخرى أبقاها الله له ليتمتع بها.. فماذا فعل؟
لقد حاول الاشتراك في عدة نوادي لممارسة رياضة الكاراتيه، ولكنه رُفض بسبب حالته الجسمانية، وأخيراً.. وافق بيل ليسلي مدرب ( الكونفو) على تدريبه.. كان رون سكانلان أول من يحضر إلى التدريب وآخر من يغادر الصالة، وداوم على التدريبات وتقدم في هذه اللعبة حتى حصل على الحزام الأسود، كان قوياً جداً، ويستعمل يديه والكرسي الخاص به لهزيمة أي منافس.. وعندما بلغ عمره 37 سنة وصل لأعلى المستويات، وأصبح هو نفسه معلماً، وفتح مدرسته الخاصة لتعليم الكونفو التي استوعبت حوالي 200 شخص.. لقد فعلها العملاق رون سكانلان!!
وهذا طفل آخر يصاب بمرض شلل الأطفال ويعيقه عن الحركة ويضطره للجلوس على الكرسي المتحرك، لكن ها الطفل البطل لم تمنعه هذه الإعاقة الخارجية وغير الحقيقية من أن يفوز 11 مرة ببطولة العالم في المبارزة، ويحصل على كأس أحسن لاعب في العالم لثلاث مرات، ويُصنف أربع مرات متتالية في المركز الأول على العالم.. إنه البطل الكويتي طارق محمد القلاف الذي حطم قيود الإعاقة ونال في شهر يوليو عام 2002 سيف الشرف لأحسن لاعب في العالم.
أما زلنا نسمي هؤلاء ( معاقون) رغم كل هذا الإنجاز؟!
إن الإعاقة الحقيقية هي أن تصدق أنك معاق
كم من الناس تفضل الله عليهم بهبات وقدرات هي أضعاف قدرات وهبات هؤلاء الناس.. لكنهم رضوا بمشي السلحفاة وعميق السبات، حتى تلبد العقل، وضعف العطاء، وانهزمت النفس، ويئست الروح، ورضت تلك الذات المنهزمة بتهميش أدوارها والركون إلى العجز والكسل.
إن شهري أكتوبر ونوفمبر من عام 2000، والساحات الرياضية في مدينة سيدني في أستراليا لتشهد بالطاقات الجبارة التي يملكها من نسميهم خطأً بالمعاقين.. إنهم لم يصدقوكم.. لقد صدقوا أنفسهم.. صدقوا أنهم أقوياء، فترى بعضهم قد أنهى مضمار السباق بثوان محدودة، وكذلك فعل بعضهم بأحواض السباحة، هذا يجري وهذا يسبح، وذاك يقفز وهذا يرمي، وذاك يضرب.. حتى أجبروا تلك الساحات في الدورة الأولمبية في سدني أن تشهد لهم بعظيم طاقاتهم وعجيب إصرارهم و أن تتوجهم أبطالاً لبلادهم.
منذ آلاف السنين، والناس يعتقدون أنه من المستحيل على الإنسان أن يركض مسافة الواحد ميل ( 1600 متراً تقريباً) في أقل من أربع دقائق، لقد حاول الإغريق والرومان القدماء لعدة قرون كسر هذا الرقم ولم ينجحوا، حتى أن الرومان جعلوا أُسوداً تهاجم الرجال ليروا إن كان هذا سيزيد من سرعتهم، فلم تنجح هذه الطريقة.. حتى قال الخبراء: " إنه من المستحيل على المستوى البشري كسر الواحد ميل في أقل من أربع دقائق".
فبقى حاجز الأربع دقائق ثابتاً كما هو، حتى قرر شاب إنجليزي اسمه روجر بانيستر Rorer Bannister أن يحطم هذا الرقم، وفي يوم 6 مايو عام 1954 جرى روجر بانيستر الميل في زمن قدره 3 دقائق و 59.6 من الثانية.. العجيب أن بعد عام واحد من هذه الحادثة، وفي مدينة أكسفورد البريطانية، استطاع 37 لاعباً تحطيم رقم الدقائق الأربع، وبعد عام تالٍ آخر أصبح هناك 300 لاعب استطاع كسر الرقم.. كيف حدث ذلك؟!
لم يكن لدى روجر أي سابقة تاريخية أو حدث تاريخي أن هناك أي شخص حطم رقم الدقائق الأربع, لكن الذي فعله روجر أنه خلق سابقة لم تكن موجودة.. لقد بذل قصارى الجهد والتدريب الرياضي، وتخيل نفسه يحقق ذلك الإنجاز مرة بعد مرة، حتى أقنع عقله أن ذلك العمل ليس مستحيلاً، وردد دائما ذلك ممكن، ذلك ممكن، ذلك ممكن... وفي النهاية حقق ما يراه عقله دائماً.. حتى استحق لقب الفارس.
لقد استطاع 300 عداء كسر هذا الرقم لأن روجر حطم الحدود المستحيلة التي رسمها الناس في عقولهم، والتي خارت عندها قوى آلاف العدائين من قبله.
حقا إن الحدود لطاقة البشر ليست هي الحدود الخارجية
التي تحاصرهم، بل هي الحدود التي رسموها في عقولهم
سألني أستاذي الدكتور جورج بيتس وهو صاحب موديل " المتعلم الذاتي" في بداية دراستي للماجستير في أمريكا، لماذا تدرس عن تربية الموهوبين والمتفوقين؟ قلت: حتى أفهم هؤلاء الموهوبين وأعرف صفاتهم وأتعرف المناهج الخاصة بهم، وحتى أتمكن مبكراً من اكتشاف مواهبهم فأنميها لهم. قال: وماذا تريد أن تفعل بكل هذا؟ قلت: عندما أرجع إلى الكويت لن أقضي حياتي أبحث عن 2% من الطلبة الذين تصنفونهم أنهم موهوبين، بل سأنظر إلى الجميع أنهم موهوبون، ثم أبحث عن السبل والمناهج التي تنمي مواهبهم المختلفة.
المشكلة ليست في الطالب، المشكلة أننا نرى الذكاء والموهبة فقط في القراءة والحساب أو من يحصل على الـA  والـ B ، أنا أؤمن بما يقوله هوارد جاردنر  Howard Gardner صاحب الذكاءات المتعددة والذي تكتسح نظريته أمريكا الآن، يقول جاردنر أن كل طالب يحسن ذكاء أو اثنين أو عشر ذكاءات معاً.
( سأله بيتس في أحد لقاءاته معه، كم ذكاء يوجد يا جاردنر: قال ربما يصل إلى أكثر من 100 ذكاء) كل طالب له ذكاؤه الخاص به، بعضهم ذكاؤه منطقي كمحبي الرياضيات والعلوم، وبعضهم ذكاؤه لغوي كالخطباء والقادة، وبعضهم ذكاؤه بصري كالرسامين وأهل الفك ( سأفرد كتاباً خاصاً بإذن الله لطلبة والتربويين، فيه الكثير من أدوات التفوق ومهاراتها، وسأتكلم عن هذه النظرية بالتفصيل)، فإذا لم يتفوق ابنك في الرياضيات فقد يتفوق في اللغة، أو قد يتفوق في الرسم، أو الخطابة و الإمامة، أو التجارة، أو الرياضة أو الميكانيكا أو الكمبيوتر.. فالذكاء ألف مهنة وصنعه، بل إن جاردنر يؤمن بأن كل فرد لديه المقدرة على تنمية الذكاءات جميعاً إلى مستوى عالٍ من الأداء إذا تيسر له التشجيع المناسب والإثراء والتعلم الجيد.
أقول المهم إننا لا نصنف أطفالنا مبكراً، بل نراقبهم حتى نعرف ميولهم فنساعدهم على تنميتها مع دعمنا لهم بكلمات التشجيع على الجهد الذي يبذلونه في تحسين مهاراتهم.. يجب أن نتجاهل التصنيف المبكر حتى لا نبني صورة ذهنية سلبية تكون هي مصدر الإعاقة لهم طوال حياتهم.
لقد أصبح تشكيل الصور الذهنية في عقول البشر صناعة ناجحة، تدر على من يشكلها بذكاء و إيجابية أموالاً طائلة، وهذا بالضبط ما يفعله صُنّاع الدعاية التجارية الآن، إن مهمة الدعاية إقناعك وعبر كثرة المشاهدة لها وسماعها بأن هذا المنتج يستحق منك أن تشتريه أو تقتنيه. ولذلك فإن ميزانية الدعاية لشركة بروكتر وقامبل (P&G) تفوق 35 مليار دولار.. 35 مليار فقط على الدعاية! وبلغت ميزانية الدعاية لشركة بيبسي 1.26 مليار دولار .. وهذا الإنفاق السخي والذكي على الدعاية جعل شركة بيبسي الثانية عالمياً في صناعة المرطبات ( تستحوذ على 31% من حجم السوق العالمي بعد شركة كوكاكولا 44%).
لقد أنفقت هذه الشركات العملاقة كل هذه الملايين من أجل صناعة الصورة الإيجابية عن منتجها، فكانت النتيجة أن صدقناها وأقبلنا على منتجها، فهلا ساعدنا أبناءنا على صناعة صورة طموحة عن أنفسهم حتى يقبلوا هم أيضاً على الحياة بكل ثقة وتفاؤل.
إن الصورة الذهنية السلبية التي تصنعها تلميحاتنا وعباراتنا السلبية، هي مصدر السلوك السلبي، الأعظم".عت من ذاك الطفل الشخصية المترددة المهزومة، فانتبه لتلميحاتك وتصنيفاتك إذا كنت ترجو أو تأمل أن ترى ابناً أو بنتاً تقر بها عينك.
كان محمد علي كلاي – بطل العالم في الملاكمة – يصرح للعالم ولنفسه فيقول " إنني الأعظم، إنني الأعظم" .. لقد كان يصنع صورة.
واستمعوا الآن منصتين إلى القصة التالية التي ترويها لكم بطلة الاولمبياد، حتى تدركوا جميعا حجم التأثير الذي تفعله الصورة الذهنية لاستخراج طاقات الإنسان..
تقول مارلين كينج: عندما يكتشف الناس أنني قد نافست في الأولمبياد ، يفترضون أنني كنت دائماً رياضية بارعة ولكن هذا غير صحيح، فأنا لم أكن الأقوى والأسرع، ولم أكن الأسرع في التعلم، وبالنسبة لي لم يكن تحولي إلى لاعبة أولمبية نتيجة تطوير موهبة لمقدرة رياضية طبيعية، ولكنه كان أثراً من آثار الإرادة بكل ما في الكلمة من معان.
في أولمبياد ميونخ 1972 كنت عضوة في فريق الخماسي الأمريكي، وفي هذه المنافسة أُصبت في كاحلي مما جعل هذه التجربة محبطة جداً لي، إلا أنني لم أنسحب، بل واصلت التدريب.. وفي النهاية تأهلت للذهاب مع الفريق الأمريكي لأولمبياد 1976 في مونتريال.
كانت التجربة ممتعة أكثر بكثير من سابقتها، وسعدت جداً لحصولي على المركز الثالث عشر، ولكنني على الرغم من ذلك كنت أشعر أنني أستطيع أن أفعل ما هو أفضل من ذلك.
تمكنت من الحصول على إذن بالإجازة من عملي، وذلك من أجل أن أتدرب قبل أولمبياد 1980 بسنة، وافترضت أن التدريب لمدة 24 ساعة في اليوم لمدة 12 شهراً، ستكفي لإعطائي المهارة الكافية للحصول على ميدالية هذه المرة.
وفي صيف 1979 بدأت التدريب المكثف للاستعداد للألعاب الأولمبية التي ستبدأ في يونيو 1980، وشعرت بالانتعاش الذي يسببه التركيز على الهدف المنشود، والتقدم بثبات نحوه.
ولكن في ذلك الوقت في نوفمبر حدث ما ظنناه عقبة.. عقبة لا يمكن تخطيها، فلقد تعرضت لحادث سيارة وأصبت في الجزء الأسفل من ظهري، ولم يعرف الأطباء بالضبط موضع الإصابة، مما اضطرني إلى إيقاف التمرين لشعوري بألم لا يُحتمل كلما تحركت، وأصبح من المؤكد أنه سيتوجب علي التخلي عن حلمي – وهو الذهاب إلى الأولمبياد – إذ توقفت عن التدريب، وشعر الجميع بالشفقة علي ، إلا أنا.
كان شعوري عجيباً.. لم أصدق أن هذه العقبة ستوقفني، وكنت واثقة أن الأطباء واختصاصي العلاج الطبيعي سيتمكنون من علاجي قريباً، وأنني سأعود إلى التمرين.. وتمسكت بإيماني أنني في تحسن مستمر، وأنني سأكون إحدى أول ثلاثة في الألعاب الأولمبية، وكانت هذه الفكرة تشغل بالي دائماً.
وكان تقدمي في العلاج بطيئاً، لم يستطيع الأطباء الاتفاق على نظام واحد لعلاجي.. يمر الوقت وأنا ما زلت أشعر بالألم ولا أستطيع الحركة ولم يتبق إلا أشهر قليلة، وكان من الواجب علي أن أفعل شيئاً، وإلا فلن أتمكن من تحقيق ما أريد، فبدأت التمرين بالطريقة الوحيدة التي أستطيعها.. بعقلي.

إن مسابقة الخماسي تتكون من خمس سباقات في المضمار والميدان – مائة متر حواجز، رمي الجلة ، الوثب العالي، الوثب الطويل، وسباق مائتي متر عدو- هذا وقد أحضرت أفلاماً عن أصحاب الأرقام القياسية العالمية في الألعاب الخمس، وكنت أجلس على كرسي في المطبخ وأشاهد الأفلام التي أعرضها على حائط المطبخ مرة بعد مرة، كنت أشاهدها بالحركة البطيئة أو أشاهدها مشهداً بعد مشهد، وعندما مللت مشاهدتها، بدأت أشاهدها بنظام عكسي لأتسلى أكثر.
شاهدت هذه الأفلام مئات الساعات، حتى ظن الناس بي الجنون، لكني أردت بكثرة تلك المشاهدة أن أتخيل تجربة المنافسة بكل تفاصيلها.. إنني غير مستعدة للاستسلام بعد، لذا بذلت قصارى جهدي في التمرين بدون أن أحرك عضلة واحدة.
وفي النهاية شخَّص الأطباء إصابتي على أنها انزلاق غضروفي، فعرفت حينها لماذا كنت أتعذب مع كل حركة.
بعد ذلك عندما استطعت أن أمشي قليلاً، ذهبت إلى مضمار السباق – على الرغم من عدم مقدرتي على التدريب- وطلبت منهم تجهيز كل معدات السباقات الخمسة، لأتخيل التمرينات الجسمانية الروتينية كلها التي من الممكن أن أقوم بها لو استطعت ذلك، وأخذت أتخيل نفسي مرة بعد مرة أنافس وأفوز في المسابقات وعلى مدار شهور.
ولكن.. هل كان الخيال كافياً؟ وهل كان من الممكن الفوز بأحد المراكز الثلاثة الأولى في المسابقات الأولمبية؟ لقد كنت أؤمن بذلك من كل قلبي.
وعندما بدأت المسابقات بالفعل، كنت قد شُفيت بالقدر الكافي لأدخل السباق، وكنت أحافظ على دفء عضلاتي و أوتاري، وتقدمت في السباقات الخمسة كما لو كنت أحلم.
وبعد ذلك.. عندما كنت أمشي في الملعب سمعت صوتاً في الإذاعة الداخلية يعلن عن اسمي.. فاحتبست أنفاسي – رغم أنني تخيلت هذه اللحظة ألف مرة في عقلي – سمعت المذيع يقول: المركز الثاني في مسابقة الخماسي الأولمبية لعام 1980 لمارلين كينج.. فشعرت بفيض من السعادة الخالصة يغمرني.
لقد أدركت مارلين مبكراً جدوى التشجيع في صناعة الصورة الإيجابية التي يُحَطَّم بها المستحيل وتتكسر عندها قيود الإعاقة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل يعوده، فقال: لا بأس، طهور إن شاء الله، فقال: بل هي حمى تفور، على شيخٍ كبير، حتى تُزيره القبور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فنعم إذاً.
أرأيتم.. إنه اختلاف الصور الذهنية التي نحملها عن الأحداث التي تمر بنا، الأعرابي الذي يرى المرض هلاكا وضعفاً فَسَخِطَ ولم يرضَ، والرسول عليه الصلاة والسلام يرى هذا المرض مطهرة للذنوب ورحمة من الله بعباده حتى لا يعاقبهم بناره يوم القيامة، فعجل لهم هذه الابتلاءات والكفارات، فمصيبة تقبل بها على الله، خيرٌ من نعمةٍ تنسيك ذكر الله، لكن الأعرابي رفض تغيير الصورة السلبية التي يحملها عن المرض.. ليس المهم ما أراه أنا لكن المهم كيف تراه أنت.
قال صلى الله عليه وسلم: " إن عِظَمَ الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، وسخِط فله السخط".
وقال صلى الله عليه وسلم " قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي".
تفاءل وتوكل على الله، وباشر عملك واجتهد لإنجازه، واترك قول المنتقصين، ودع أذاهم، وأحفظ قول الشاعر:
لا تقل عن شيءٍ ذا ناقص          إئتِ بأوفى ثم قل ذا أكملُ
وإذا أردت الأوجه والأكمل فلا تتعب نفسك لأجلهم، ولا تحفظ لهم حتى هذا البيت من الشعر، فلن يزيدوك إلا خذلانا وتباطؤا، أغلق لهم أذنيك واستمر في عملك ولا تضعف ولا تعجز.
حب السلامة يثني عزم صاحبه          عن المعالي ويغري المرء بالكسل
فإن جنحت إليه فاتخذ نـــــــفقاً           في الأرض أو سلماً في الجو فاعتزلِ
وقال الشاعر:
من راقب الناس مات هماً          وفاز باللذات الجسور
قال صلى الله عليه وسلم: " المؤمن القوي خيرٌ وأحبُ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن الله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان".
وقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن، والعجز والكسل، والبخل والجُبُن، وضَلَع الديَّن، وغَلبَةِ الرجال".
قال الشيخ الدكتور عائض القرني في كتابه " لا تحزن" :
" إن الجالس على الأرض لا يسقط، والناس لا يرفسون كلباً ميتاً، لكنهم يغضبون عليك لأنك فُقتَهم صلاحاً، أو علماً، أو أدباً، أو مالاً، فأنت عندهم مذنبٌ لا توبة لك حتى تترك مواهبك ونعم الله عليك، وتنخلع من كل صفات الحمد، وتنسلخ من كل معاني النبل، وتبقى بليداً غبياً، صفراً محطماً، مكدوداً، هذا ما يريدونه بالضبط. إذاً فاصمد لكلام هؤلاء ونقدهم وتشويههم وتحقيرهم " أُثبت أحُد" وكن كالصخرة الصامتة المهيبة تتكسر عليها حبَّات البَرَد لتثبت وجودها وقدرتها على البقاء، إنك إن أصغيت لكلام هؤلاء وتفاعلت به حققت أمنيتهم الغالية في تعكير حياتك وتكدير عمرك، ألا فاصفح الصفح الجميل، ألا فاعرض عنهم ولا تكن في ضَيْقٍ مما يمكرون. إن نقدهم السخيف ترجمة محترمة لك، وبقدر وزنك يكون النقد الآثم المفتعل".
أيها الشباب.. يعجبني الذي يُصدق نفسه ويثق بقدراته، يعجبني الذي يتجاهل التحطيم ويتجاوز العوائق، ولذلك أعجبني الإمام أبو جعفر الطحاوي... فعندما كان الطحاوي يطلب العلم عند خاله وشيخه أبي إبراهيم المزني، قال المزني له : والله لا جاء منك شيء – بمعنى ليس منك فائدة – قام الطحاوي غاضباً مستنكراً هذا الوصف من شيخه، فلم يصدق ما قاله عنه أستاذه، بل رحل إلى غيره من العلماء وأخذ يطلب العلم منهم، فتفقه وتعلم، حتى انتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة بمصر، ولُقب بالعلامة والحافظ الكبير، ومحدِّث الديار المصرية وفقيهها.. رحم الله أبا إبراهيم ( المزني) لو كان حياً ورآني لكفَّر عن يمينه.
تذكر.. أن تثق بقدراتك ومهاراتك
حتى لو شك الناس جميعهم فيها
قال سليمان الداراني:
" لو شك الناس كلهم في الحق، ما شككت فيه وحدي".

أخيراً.. أيها الشباب.. ملخص هذا الكتاب، ملخص ما أردته منكم هو ثلاث جمل:
-        لتكن لديكم أهدافكم الواضحة والمكتوبة.
-        ثابروا واعملوا وابذلوا قصارى جهدكم لبلوغ أهدافكم.
-        لا يحطمنكم الاستهزاء والنقد مهما بلغت درجاته وكثرت مصادره.
" كما قلت أيها الشباب .. لكم كتبته، كتبته إلى من أحب .."
تم بحمد الله ومنته وفضله ،،،


0 التعليقات:

إرسال تعليق

تصميم : باســـم